بريطانيا، شأنها شأن دول الاتحاد الأوروبي، في حاجة ملحّة إلى قطر ودول الخليج وغيرها من الدول ذات الفوائض المالية الضخمة، وخاصة هذه الأيام، كذلك فإنها بحاجة إلى الدول صاحبة الموارد النفطية الضخمة، سواء بترول أو غاز طبيعي.
فالدولة الأوروبية تعاني من أزمة طاقة حادة منذ اندلاع حرب أوكرانيا نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، وهذه الأزمة أربكت المشهد الاقتصادي والمالي داخل بريطانيا كما هو الحال في الدول المستوردة للطاقة بكثافة، حيث ارتفعت فاتورة الطاقة من غاز ومشتقات بترولية بسبب قفزات أسعار النفط في الأسواق الدولية وبلوغ سعر الغاز الطبيعي مستويات قياسية، وزادت كلفة فواتير الكهرباء والتدفئة وغيرها من تكاليف المعيشة التي بات يئنّ منها المواطن البريطاني وكأنه يقيم في دولة فقيرة أو في إحدى دول العالم النامي.
بريطانيا تعاني من أزمة تضخم وغلاء قياسي في أسعار السلع والمنتجات والطاقة بسبب موجة تضخم عالمية وتعطل سلاسل الإمدادات
وبريطانيا تعاني من أزمة تضخم وغلاء قياسي في أسعار السلع والمنتجات بسبب موجة تضخم عالمية وتعطل سلاسل الإمدادات وزيادة الطلب على المواد الخام والسلع الوسيطة، زادت حديتها مع تلكؤ روسيا في تزويد دول الاتحاد الأوروبي بالغاز الطبيعي، رداً على العقوبات الغربية المفروضة بحقها وبحق اقتصادها ومستثمريها وشركاتها وأصولها من النقد الأجنبي.
وإضافة إلى الأزمتين السابقتين، عانت بريطانيا في الفترة الماضية من فوضى سياسية ومالية، وخاصة في فترة رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، التي أربكت المشهد الاقتصادي خلال فترة توليها منصبها، والتي لم تدم سوى شهر ونصف، عبر إصدار قرارات متسرعة وغير مدروسة.
ويواجه الجنيه الإسترليني أزمة حادة، وسط نزوح ضخم للأموال من بريطانيا منذ خروج البلاد من عضوية الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وزاد هذا النزوح عقب اندلاع حرب أوكرانيا، وارتكاب السلطات أخطاء داخلية بملف الهجرة، وفقدان لندن جزءاً من بريقها كواحد من أبرز المراكز المالية الجاذبة للاستثمارات في العالم.
وبريطانيا على موعد مع "شتاء الغضب" في ظل زيادة الاضرابات العمالية وعدم قدرة الحكومة على تلبية مطالب العمال والموظفين خاصة المتعلقة بزيادة الأجور والرواتب وتحسن الوضع المعيشي.
في ظل هذه الأزمات المتلاحقة، نشبت أزمة جديدة قد تمثل معضلة كبيرة بالنسبة إلى الاقتصاد البريطاني. فقد حظرت السلطات في العاصمة لندن هذا الأسبوع إعلانات قطرية تروّج لبطولة كأس العالم على وسائل النقل مثل الحافلات وسيارات الأجرة ونظام قطارات الأنفاق اعتراضا على حظر قطر السماح بشارات دعم المثليين، أو ارتداء ملابس ترمز إلى المثليين خلال مونديال كأس العالم.
قطر من أكبر المستثمرين الأجانب داخل بريطانيا، فحجم الاستثمارات القطرية يقدَّر بنحو 40 مليار جنيه إسترليني
وجاءت الخطوة البريطانية التي استفزت قطر على خلفية طلب رئيس بلدية لندن، صادق خان، من هيئة النقل في لندن "مراجعة كيفية تعاملها مع الإعلانات والرعاية من البلدان التي لديها قوانين لمكافحة مجتمع المثليين"، وأدى ذلك إلى تعليق الإعلانات الجديدة من 11 دولة، ومنها قطر وباكستان وبروناي والسعودية، ودفع قرار الحظر قطر إلى البدء بمراجعة استثماراتها الحالية والمستقبلية في بريطانيا، وفق صحيفة فاينانشال تايمز.
خطوة قطر تلك من المحتمل أن توجع بريطانيا بشدة في هذه الأيام. فالدولة الخليجية واحد من أكبر المستثمرين الأجانب داخل بريطانيا، فحجم الاستثمارات القطرية يقدَّر بنحو 40 مليار جنيه إسترليني.
ولدى قطر صندوق سيادي تتجاوز أمواله 460 مليار دولار ويديره جهاز قطر للاستثمار، وهذا الجهاز يبحث هذه الأيام عن فرص استثمار وأصول للاستحواذ عليها داخل بريطانيا.
وفي حال إصرار الدوحة على موقفها تجاه لندن، فإنّ هذا يعني أولا سحب جهاز قطر للاستثمار تعهداته التي أطلقها في شهر مايو/ أيار الماضي، باستثمار 10 مليارات جنيه إسترليني على مدى خمس سنوات في المملكة المتحدة، مع التركيز على قطاعات التكنولوجيا والرعاية الصحية والبنية التحتية والطاقة النظيفة.
كذلك قطر أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وتوفر نحو 20% من استهلاك بريطانيا من الغاز، وفي حال خروج تهديدات قطر إلى العلن، فقد تفشل مفاوضات المملكة المتحدة الهادفة إلى تأمين إمدادات الغاز على المدى الطويل من قطر، كما جرى أمس الثلاثاء مع ألمانيا، إذ أبرمت قطر اتفاقات لتزويد ألمانيا بـالغاز الطبيعي المسال من حقل الشمال لمدة 15 سنة.
جهاز قطر للاستثمار يمكنه سحب تعهداته باستثمار 10 مليارات جنيه إسترليني على مدى خمس سنوات في المملكة المتحدة
ويمكن لقطر بيع استثماراتها في أصول بريطانية استراتيجية، حيث تمتلك متاجر هارودز، ومباني شارد وكناري وارف في قلب لندن، وحصة في مطار هيثرو وبورصة لندن، ويمتلك جهاز قطر للاستثمار 22% من مجموعة متاجر سينزبري، و5.9% من بنك باركليز. إضافة إلى الاستثمارات الضخمة في الفنادق والعقارات والشركات والأندية الرياضية البريطانية.
والى جانب الاستثمارات، فإنّ التجارة نشطة جداً بين البلدين. فوفق الأرقام، أصبحت المملكة المتحدة واحداً من أهم وأقوى الشركاء التجاريين لقطر، وشهد حجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفاعاً في 2021، بنحو 51.4%، مقارنة بـ2020، ليصل إلى نحو 4.54 مليارات دولار.