في الوقت الذي يصارع فيه العالم للتصدّي لفيروس كورونا غير المرئي، يعاني العالم العربي أخيراً من فيروس من نوع آخر تماماً أشدّ فتكاً وخطورةً نظراً لأعراضه المتمثلة في انتشار عدوى الانسياق وراء موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتزايد حمّى التسلّح، والتهافت على شراء أكثر الأسلحة تطوُّراً وفعالية.
فبعد الإمارات والبحرين والسودان انضمّ المغرب إلى قافلة التطبيع العلني والرسمي مع إسرائيل، كما تصاعد السباق نحو التسلّح في المنطقة العربية بوتيرة أسرع ليصل إلى مستويات قياسية جديدة، حيث تعمل المخطَّطات الإسرائيلية من جهة على إضافة نزاعات أخرى إلى المنطقة العربية لحرمانها قدر المستطاع من الاستقرار، وتدفع المحاولات الأميركية، من جهة أخرى، الدول العربية نحو سباق تسلّح محموم ينذر بحروب ضارية ومعارك دامية.
تواصل الحليفتان السرمديتان، إسرائيل وأميركا، اللعب على الأوتار الحسّاسة للحكام العرب من خلال إغوائهم ووعدهم بتزويدهم بأحدث أنواع الأسلحة والمعدات الدفاعية التي كانت محظورة في السابق مقابل إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، حيث تسعى الحكومات الاستبدادية في العالم العربي وراء تحالفات فارغة الجوهر ولامعة المظهر مع الاحتلال الصهيوني لضمان استقرار أنظمتها واستمرار سياساتها، مساهمة بذلك في إنعاش سوق الصناعات العسكرية والدفاعية الأميركية والأوروبية على حساب شعوبها المطحونة بالفقر والبطالة والتهميش والاستبداد.
لقد وصل الإنفاق العسكري بالعالم العربي إلى مستويات خطيرة في الآونة الأخيرة، حيث بلغ سنة 2019، 61.86 مليار دولار في السعودية، 10.3 مليارات دولار في الجزائر، 7.7 مليارات دولار في الكويت، 7.59 مليارات دولار في العراق، 6.72 مليارات دولار في سلطنة عمان، 3.74 مليارات دولار في مصر، 3.72 مليارات دولار في المغرب، 2.52 مليار دولار في لبنان، 2.03 مليار دولار في الأردن، 1.4 مليار دولار في البحرين، ومليار دولار في تونس، هذا وفقاً لأحدث إحصائيات معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI).
تلك الأرقام الخيالية تدقّ ناقوس الخطر لاسيَّما إذا ما تمّت مقارنتها بمبالغ الإنفاق العسكري، لسنة 2007، والتي بلغت 35.46 مليار دولار في السعودية، 4.11 مليارات دولار في الكويت، 3.94 مليارات دولار في الجزائر، 3.3 مليارات دولار في مصر، 3.24 مليارات دولار في سلطنة عمان، 2.4 مليار دولار في المغرب، 1.98 مليار دولار في العراق، 1.15 مليار دولار في لبنان، 1.03 مليار دولار في الأردن، 642.6 مليون دولار في البحرين، و490.7 مليون دولار في تونس.
تشير بيانات (SIPRI) لسنة 2019 إلى أنّ نسبة الإنفاق العسكري من إجمالي الإنفاق العام في العالم العربي وصلت إلى مستويات خطيرة تتجاوز بكثير تلك النسب التي سجَّلتها الدول المتقدمة، فقد بلغت هذه النسبة 20.3 في المائة في السعودية، 20.3 في المائة في سلطنة عمان، 15.5 في المائة في الجزائر، 15.2 في المائة في الأردن، 13.8 في المائة في لبنان، 12.1 في المائة في البحرين، 10.5 في المائة في الكويت، 10.3 في المائة في المغرب، 7.9 في المائة في تونس، 7.8 في المائة في العراق، و4.2 في المائة في مصر، مقارنة بـ 9.4 في المائة في الولايات المتحدة الأميركية، 5.4 في المائة في الصين، 4.5 في المائة في بريطانيا، 3.5 في المائة في النرويج، 3.3 في المائة في فرنسا، 3.2 في المائة في كندا، 2.8 في المائة في ألمانيا، 2.5 في المائة في اليابان، و2.3 في المائة فقط في السويد.
وتكشف هذه الأرقام عن مدى حرص الدول المتقدمة على توجيه الإنفاق العام نحو القطاعات الحيوية المنتجة التي تُشغِّل رافعات النمو الاقتصادي، بدلاً من هدره على التسلّح لمواجهة تنامي الصراعات العسكرية والخلافات السياسية وانتشار الجماعات الإرهابية المفتعلة في المنطقة العربية بناءً على التعليمات الأميركية والإسرائيلية.
كما تعتبر نسبة الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي مؤشِّراً مهمّاً للنزاعات المستقبلية المحتملة ومحدِّداً لاحتمال تكرار الحروب الأهلية؛ ففي سنة 2019 بلغت تلك النسبة 8 في المائة في السعودية، 6 في المائة في الجزائر، 5.6 في المائة في الكويت، 4.7 في المائة في الأردن، 4.2 في المائة في لبنان، 3.7 في المائة في البحرين، 3.5 في المائة في العراق، 3.1 في المائة في المغرب، 2.6 في المائة في تونس، و1.2 في المائة في مصر.
وأحيانا تسرد علينا تلك الأرقام نصف القصة فقط بينما يظلّ النصف الآخر مخفيّاً، فحسب تقرير صادر عن معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية سنة 2014 تحت عنوان "الإنفاق العسكري العربي: خلف الأرقام"، تبيَّن أنّ هناك نقاطاً أخرى غير مأخوذة بعين الاعتبار في نسبة الإنفاق العسكري التي لا تتعدّى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بمصر، حيث لا تشمل تلك النسبة الأنشطة الاقتصادية المنفصلة لقوات الجيش والتي تساهم بشكل أو بآخر في تمويل جزء ولو بسيط من الإنفاق العسكري.
وأشار التقرير إلى أنّ هناك 30 شركة تابعة للجيش تدرّ ما يتراوح ما بين 5 إلى 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المصري، وهذا علاوة على حصول مصر على حوالي 1.3 مليار دولار سنوياً من المساعدات العسكرية الأميركية والتي تغطّي بدورها ما يقارب 80 في المائة من المشتريات العسكرية المصرية، وما خفي كان أعظم في الدول العربية الأخرى ذات الأهمية الجيوستراتيجية.
يستهدف التحايل الأميركي الإسرائيلي ضعف وخضوع النخب العربية الحاكمة بمجرَّد ظهور تصوُّر بوجود تهديد يدفعها إلى التمسُّك بالتسلُّح وزيادة الإنفاق العسكري لضمان البقاء والاستمرار، وما يزيد الطين بلة هو تمويل الإنفاق العسكري من خلال الإيرادات الضريبية أو الاقتراض.
وهكذا تقتل تلك الحكومات مواطنيها مرّتين؛ مرّة من خلال حرمانهم من الإنفاق على تطوير النظام التعليمي وتحسين الرعاية الصحية، ومرّة أخرى من خلال استنزاف ما في جيوبهم للدخول في مهاترات سياسية وخوض حروب ونزاعات لا طائل منها سوى الخراب والدمار.
خلاصة القول إنّ التطبيع مع إسرائيل هو أولى صفحات فصول النزاع التي تجرّ إلى حتمية الإنفاق على الدفاع، والحكومات العربية مجبرة الآن أكثر من أيّ وقت مضى على الاختيار بين التنمية الاقتصادية والإنفاق العسكري، وينبغي أن تكون الأولوية للتنافس على تحسين مستقبل الشعب العربي بدلاً من الحرص على ضمان أمن الكيان العبري.