طريق عودة فلسطين من البوابة الاقتصادية

30 أكتوبر 2023
حلم العودة يراود كل فلسطيني وتحتفظ كل عائلة بمفتاح المنزل (عبد الحكيم أبو رياش/أرشيف)
+ الخط -

دخلت الحرب على غزة أسبوعها الثالث وقد خلّفت آلاف الشهداء جلّهم من الأطفال والنساء، مُسح العديد من العائلات من السجلات المدنية، ولم توفّر آلة الاحتلال العسكرية الأبنية والمشافي والبنية التحتية من القصف الممنهج، وعلى الرغم من القتل والدمار زاد تأييد الحكومات لإسرائيل ابتداءً من الولايات المتحدة إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا.

يُهدد أهالي غزة اليوم بالتهجير وتكرار ما حدث مع الأجداد عام 1948، ولم تفلح ضغوط الدول العربية ومنظمات حقوق الإنسان والمظاهرات بالشوارع في لجم انتهاكات الاحتلال.

أثارت هذه الحرب، ولا تزال، الكثير من الأسئلة وإشارات التعجب، ليس عن مستقبل القطاع وحسب، بل عن حالة الوهن الذي يعيشه المواطن العربي وتحمله كل هذه الدماء والدمار والنزوح والتجويع، وهو يرى يومياً كيف أن أرواحه لا قيمة لها مقابل مساعي الدول الكبرى لمواساة الاحتلال وتضميد جراحه وتأليبه عندما يقتل أرواحاً أكثر من المعتاد! ففعل القتل ليس جريمة، بل قتل 700 في يوم واحد فعل غير مقبول!

عجز البلدان العربية وصل إلى عدم القدرة على مساعدة أهالي القطاع بتقديم الغذاء والدواء والمياه وانتظار إشارات إسرائيل لفتح معبر رفح لتقديم المساعدة. بعد 75 عاماً على نشوء الكيان ونكبة الفلسطينيين لا ملامة للأجداد على ما حدث آنذاك، يقف جيل اليوم حائراً عاجزاً إلا من الدعاء لله! وانتظار الفرج.

مقارنةٌ اقتصادية بين العرب ودولة الاحتلال

مرّت 75 عاماً على النكبة استطاعت خلالها دولة الاحتلال أن تصبح قوة نووية تلوّح بهذا السلاح متى وكيف شاءت، بنت اقتصاداً بلغ حجمه حوالي 522 مليار دولار بمعدل نمو وسطي 4.21% خلال السنوات العشر الماضية، وبلغ نصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي 43 ألف دولار سنوياً، ما رفع من مستوى المعيشة لحوالي 7 ملايين مستوطن وجعلها نقطة جذب للهجرة إليها والسياحة فيها، كما بلغت نسبة الصادرات من السلع المتنوعة 31% من الناتج المحلي في 2022.

على الرغم من قلة المساحة الجغرافية وافتقادها للموارد الطبيعية والتهديد المحيط بها والحروب التي خاضتها، إلا أنها تمكنت من بناء اقتصاد إقليمي منافس يقارن باقتصادات مثل النمسا وبلجيكا وأيرلندا مقارنة بالمساحة وعدد السكان.

سَمح لها هذا الوفر الاقتصادي بتوفير موارد أكثر لتغطية الإنفاق العسكري والتفوق على الدول العربية، وبناء علاقات اقتصادية مع دول صاعدة مثل الصين والهند، وحمل المظلومية وشمّاعة المحرقة بحق اليهود مكّنها من ضمان دعم مالي دولي شبه مستدام من قبل الولايات المتحدة وألمانيا.

على الطرف الآخر، ماذا فعلت دول عربية مثل مصر وسورية والعراق؟ والتي تمكنت من تحرير الأقصى في يوم ما!

بلغ حجم الاقتصاد المصري وهي أكبر دولة من حيث عدد السكان في الوطن العربي نحو 477 مليار دولار في العام 2022 ويبلغ نصيب الفرد فيها 4295 دولاراً سنوياً.

أما حجم الاقتصاد العراقي والذي يحتوي على خامس أكبر احتياطي نفطي في العالم فيبلغ نحو 264 مليار دولار، أما نصيب الفرد فيبلغ 5937 دولاراً سنوياً حسب بيانات عام 2022.

فيما خرجت سورية من الحسابات منذ العام 2011 بسبب الأحداث الدموية التي تعيشها، ولكن بلغ حجم اقتصادها في العام 2010 نحو 60 مليار دولار وبلغ نصيب الفرد آنذاك قرابة 2807 دولارات سنوياً.

تعاني الدول الثلاث من مشاكل هيكلية في اقتصاداتها على مستوى الإنتاج والاستهلاك، ومن انخفاض في مستويات المعيشة وارتفاع في معدلات الفقر حيث بلغ معدل الفقر في مصر حوالي 32.5% من عدد السكان، وفي العراق 24.8%، وفي سورية 90% بحسب آخر الدراسات.

انعطافاً إلى دول الخليج العربي التي عاشت طفرة النفط والغاز واستطاعت مراكمة رؤوس أموال كبيرة، هي الأخرى تعاني من حلقة التبعية لاقتصادات الدول الغربية ومنتجاتها ومن الاقتصاد الريعي.

تبقى دول المغرب العربي البعيدة جغرافياً عن فلسطين والتي تعاني أيضاً من مشاكل اقتصادية وهي لا تقل أثراً عن الدول القريبة.

الغلبة للأقوى اقتصادياً

لا يفتأ حلم العودة يراود كل فلسطيني وتحتفظ كل عائلة بمفتاح المنزل، يأخذه الابن من والده حتى يفتح باب بيته عندما يعود إلى أرضه وبيت أجداده يوماً ما.

يؤمن البعض بأن العودة تتحقق بالبندقية مهما بلغ فارق القوة العسكرية بين الطرفين، وهناك فريق آخر يؤمن بالمفاوضات وحل الدولتين وإرساء قواعد السلام مع إسرائيل التي صار يعتبرها شراً لا مفرّ منه.

على مدار السنوات الماضية، جرّب كلا الفريقين نظريتيهما، والنتيجة لا داعي لذكرها.

سأجرب نظرية أو طريقة أخرى للعودة، عبر تحويل السؤال من الطريق للعودة إلى الطريق نحو القوة الاقتصادية؟ كيف تملك الدول العربية مكانة اقتصادية بين الدول، تفرض موقفها ويُخاف جانبها من قبل الدول الأخرى على أقل تقدير؟

من هذا المنطلق لم تمر 75 عاماً على نكبة الفلسطينيين وحسب، بل على ضعف الاقتصادات العربية أيضاً. مرّت 75 عاماً على تدهور المعيشة وهشاشة الإنتاج والركون للأموال الريعية واستيراد الاحتياجات الأساسية.

تستورد البلدان العربية معظم احتياجاتها من الولايات المتحدة والبلدان الغربية وتتطلع إلى العالم العربي على أنه سوق جيدة لاستهلاك منتجاتها وخدماتها ومنطقة لاستيراد المواد الخام منها، وإلى مواطني هذه الدول على أنهم مستهلكون لا يقدمون قيمة كبيرة في الحياة.

وقعت الدول العربية على مدار العقود الماضية أسيرة النظرية الاقتصادية الغربية، فما السبيل لامتلاك القوة الاقتصادية التي تعيد القيمة للموارد والمواطن؟
بدايةً، على البلدان العربية إعادة تعريف النظرية الاقتصادية والقيمة الاقتصادية.

فالقيمة لا تأتي من استخراج المادة من الأرض، بل من خلال إنتاجها وتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام لتصبح ذات قيمة أعلى من مكوناتها الأصلية، وتلعب المنافسة والسوق والمنفعة دوراً حاسماً في تحديد ثمن السلعة.

فالنفط يبقى مادة خاماً حتى يتم العمل على تكريرها وتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام، وكذا الحديد والألمنيوم والزجاج، ويبقى معدن الذهب معدناً ثميناً فقط حتى يتم العمل عليه وتحويله إلى مصاغ يُباع ويُشترى.

ويبقى اليورانيوم عنصراً كيميائياً منتشراً في الطبيعة حتى تفكك نواة هذه المادة وتنتج حرارة عالية يمكن استخدامها لأغراض إنتاج القنابل النووية وأعراض سلمية مثل توليد الكهرباء.

بهذا المنطق سيكون مصدر القيمة هو العمل والتخصص، ومن ثم البحث والتطوير وزيادة المعرفة، وبهذا المنطق أيضاً لن يقتصر ثراء الدولة وقوتها ومكانتها أمام الدول الأخرى على توفر الثروات الطبيعية وحسب، بل بمقدار ما تنتجه من سلع وخدمات مفيدة قابلة للتبادل والاستخدام وتصدر للدول الأخرى، وكلما زاد الاعتماد على هذه السلع وقعت التبعية فزادت قوة الدولة الأولى وضعفت الدولة الثانية.

هكذا فكرت الدول الغربية على مدار المائتي عام الماضية، وبهذا استعمرت الدول واغتصبت الموارد وأحضرت إسرائيل. لا مجال للندب والتحسّر على ما فات، بل بتصحيح الأخطاء وتصويب المسار الذي وقعت الدول العربية فيه.

فواقع الحال أن المنطقة لا تنقصها موارد طبيعية ولا بشرية ولا حتى الإرادة والتراث التاريخي.

على الدول العربية التخلي عن سباق تحقيق معدلات نمو عالية واستبدالها بتحصيل كفاءات علمية في كافة المجالات، وعوض بناء الأبراج والعقارات، بناء المدارس والجامعات ومعاهد البحث العلمي والمشافي وحواضن الأعمال والمصانع والمعامل والورش الفنية والمدن الصناعية.

طريق عودة العوائل الفلسطينية يحتاج إلى تعديل سلوك النظرية الاقتصادية المتبعة في البلدان العربية أولاً، بحيث تصبح قادرة على إنتاج احتياجاتها من السلع والخدمات المتنوعة وامتلاك صناعات ثقيلة ودفاعية، وامتلاك المكانة والشخصية القوية اللتين تجعلان الدول الأخرى تحسب لها ألف حساب قبل الإتيان بأي خطوة قد تغضبها.

المساهمون