صمود غير متوقع للاقتصاد الروسي في 2022... ومخاوف من اختناق هادئ بفعل العقوبات

29 ديسمبر 2022
الروبل تمكن من استعادة مستويات ما قبل الحرب بعد إجراءات صارمة (فرانس برس)
+ الخط -

في الأيام الأولى بعد اندلاع الحرب الروسية المباشرة على أوكرانيا في نهاية فبراير/شباط الماضي، هيمنت حالة من الذعر على الأسواق الروسية، وسط قفزات سعر صرف الدولار في بورصة موسكو إلى أكثر من 100 روبل، بينما هرع السكان إلى المصارف لسحب أموالهم، مما أوصل الأمر إلى حد استنفاد الأوراق المالية في ماكينات السحب التابعة للمصارف الروسية.

وفي تلك الأثناء، بدأت الدول الغربية بفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا وصلت إلى حد وقف حركة الطيران معها وإغلاق الأجواء أمام الطائرات الروسية، وفصل عدد من المصارف الروسية الكبرى عن منظومة "سويفت" العالمية للتحويلات المالية، وسط انسحاب الشركات العالمية الكبرى واحدة تلو الأخرى من السوق الروسية.

وفي سابقة تاريخية لتجميد أصول لمصرف مركزي لدولة كبرى، قامت الدول الغربية بتجميد الاحتياطات الدولية الروسية بقيمة تفوق 300 مليار دولار، مما اضطر السلطات المالية الروسية لفرض قيود صارمة على سحب العملات الأجنبية من الحسابات المصرفية وإلزام المصدرين بتحويل عوائدهم إلى الروبل، وسط رفع سعر الفائدة الأساسية من 9.5% إلى 20% دفعة واحدة لجذب الأموال الساخنة إلى المنظومة المالية الروسية في ظروف المخاطر الجيوسياسية.

لكن بعد أسابيع معدودة بات واضحاً أن الغرب أساء تقدير قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود، وفق محللين، إذ لم يستعد الروبل الروسي مواقعه فحسب، بل عززها إلى مستويات أعلى حتى مما كان عليها لدى بدء الحرب، مستقراً عند مستوى أقل من 65 روبلاً للدولار منذ منتصف مايو/أيار الماضي، وحتى أقل من 55 روبلاً في بعض الأيام من الصيف الماضي، وذلك لأول مرة منذ منتصف عام 2015.

الاستغناء عن النفط الروسي

ومن العوامل التي ساعدت اقتصاد روسيا وعملتها على الصمود، إبداء الغرب تأنيا لافتا امتد حتى نهاية العام تقريباً في الاستغناء عن النفط الروسي، مما مكن روسيا من زيادة عوائدها بالعملة الأجنبية، وحتى مطالبة الدول "غير الصديقة" بسداد قيمة الغاز الروسي بالروبل.

ومع ذلك، سجل الروبل الروسي موجة من الهبوط في نهاية العام، وسط ارتفاع سعر صرف الدولار إلى نحو 70 روبلاً لأول مرة منذ نهاية إبريل/نيسان الماضي، بالتزامن مع دخول الحظر الأوروبي على النفط الروسي المنقول بحراً حيز التنفيذ، وتحديد الدول الغربية سقفا لسعر النفط الروسي عند مستوى 60 دولاراً للبرميل، وهو ما رد عليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالتوقيع على مرسوم منع إمدادات النفط الروسي ومنتجاته إلى الدول التي تنضم إلى سقف الأسعار.

ويعتبر مدير مركز بحوث مجتمع ما بعد الصناعية، فلاديسلاف إنوزيمتسيف، أن صمود الاقتصاد الروسي يرجع إلى اكتفائه الذاتي النسبي مجتمعا مع التحركات العاجلة للمصرف المركزي في بداية الأحداث لمنع استمرار تهاوي الروبل وما كان سيترتب على ذلك من تداعيات.

ويقول إنوزيمتسيف لـ"العربي الجديد": "حتى في ظروف العقوبات، سجل الاقتصاد الروسي نتائج أفضل مما توقعه كثيرون في الأيام الأولى من الحرب، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى اكتفائه الذاتي النسبي. كان يمكن لما جرى بعد بدء التدخل الروسي في أوكرانيا من جهة تجميد نصف احتياطات المصرف المركزي والعقوبات على القطاع المالي والتراجع الحاد للروبل، أن يطلق تفاعلاً تسلسليا في حال لم تتخذ السلطات المالية إجراءات حازمة أتاحت السيطرة على سعر الصرف عن طريق مراقبة حركة رؤوس الأموال وزيادة عرض العملة من قبل المصدرين".

ويلفت إلى أن هذه الإجراءات أتاحت منع تسارع وتيرة التضخم والتراجع الحاد لدخل الفرد الحقيقي، مما خلق ظروفاً للاستقرار النسبي للاقتصاد في السنوات المقبلة.

وحول توقعاته لأداء الروبل في العام الجديد، يضيف إنوزيمتسيف: "يجب الانطلاق من أن سعر الصرف يتحكم فيه المصرف المركزي بشكل كامل، ويمكنه تغييره كما يراه ضمن حدود واسعة إلى حد كبير. وحتى الآن لا أرى أسباباً لتراجع هام للعملة الوطنية، إذ إن السلطات لا تريد خلق مصادر جديدة للقلق المتنامي أصلاً في المجتمع".

العالم يدفع الفاتورة

استقرار الاقتصاد الروسي والروبل قابله تفاقم الأزمات المعيشية وقفزات معدلات التضخم في بلدان الاتحاد الأوروبي، مما عزز مواقع الكرملين داخلياً وخارجياً في رهان على سقوط حكومات في أوروبا والإثبات للعالم أن سيناريو شطب روسيا من الخريطة الاقتصادية العالمية، وفق نموذج حذف كوريا الشمالية وإيران وسورية، لن يتحقق في حالة موسكو.

ومع ذلك، يرى كبير المحللين في مجموعة "تيلي تريد" للتداول، مارك غويخمان، أن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم لا يمكن اختصارها في تداعيات النزاع في أوكرانيا، مذكراً بأن المصارف المركزية تبنت سياسات تحفيزية في السنوات الماضية قابلها رفع أسعار الفائدة هذا العام.

ويقول غويخمان لـ"العربي الجديد": "كان العام مليئا بأحداث متباينة غير قابلة للتنبؤ أثرت على الأسواق، ولها طابع مترابط وطويل الأجل مثل ارتفاع معدلات التضخم في الدول المتقدمة إلى مستوى أكثر من 10% لأول مرة منذ عقود، وهذه تداعيات لجائحة كورونا وما ترتب عليها من تخفيف السياسات النقدية للمصارف المركزية في السنوات الماضية مجتمعة مع أزمة الطاقة وتراجع إمدادات موارد الطاقة الروسية".

ويلفت إلى أن المصارف المركزية الرائدة، وفي مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، أقدمت في العام الحالي على رفع كبير لأسعار الفائدة، مما أثر سلبا على الإمكانيات الصناعية والاستثمارية والطلب على السلع والأوراق المالية وعوائد الشركات.

ومع ذلك، يقر بأن الاقتصاد الروسي تعرض لضربة أقوى من الاقتصاد العالمي ككل في 2022، مضيفا: "تعرض الاقتصاد الروسي لعوامل سلبية إضافية مثل العقوبات واسعة النطاق وتراجع صادرات موارد الطاقة وانسحاب الشركات الأجنبية من السوق والتعبئة الجزئية وغيرها".

ويتوقع استمرار مفعول هذه العوامل السلبية في العام الجديد 2023، قائلا: "سيترجم ذلك إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ما بين 2% و4%، وانخفاض دخول السكان وتنامي عجز الموازنة، وتراجع قيمة العملة ومعروض السلع في السوقين الصناعية والاستهلاكية، وفي المقابل لن يتجاوز معدل البطالة مستوى 4% أو 5% نتيجة لتراجع عدد المرشحين لشغل وظائف على إثر التعبئة الجزئية وسفر كثيرين إلى الخارج ومغادرة المغتربين".

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

ويبدو أن تراجع الروبل في الأيام الأخيرة، يثير ارتياح السلطات المالية الروسية، على ما يبدو، كونه يزيد عوائد التصدير بما تعادله بالعملة الوطنية، إذ قال النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي المسؤول عن الملفات الاقتصادية، أندريه بيلؤوسوف، في حديث لقناة "روسيا 24" في وقت سابق من الأسبوع الجاري: "نرى أن عوائد الشركات تتراجع، وهذا يؤثر على الاستثمارات، وفي هذه الظروف حبذا، بالطبع، أن يكون سعر صرف الدولار بين 70 و80 روبلاً".

وتقر السلطات المالية الروسية بأن عودة الاقتصاد الروسي إلى مستويات ما قبل حرب أوكرانيا لن تكون سريعة. وقال نائب رئيسة المصرف المركزي الروسي، أليكسي زابوتكين، في حوار مع صحيفة "إر بي كا" الروسية: "إذا تطور الاقتصاد عند السقف الأعلى لتوقعاتنا الأساسية لأكتوبر/تشرين الأول الماضي، فسنعود إلى مستوى عام 2021 في عام 2025 تقريباً".

وسبق للمصرف المركزي أن توقع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي الروسي تراجعاً يتراوح بين 3% و3.5% في العام المنتهي، بينما تتوقع وزارة التنمية الاقتصادية الروسية ألا تزيد نسبة التراجع عن 3%، على أن يبدأ التعافي في الربع الأول من عام 2023.

وكان بوتين قد جزم في منتصف ديسمبر/كانون الأول الجاري، بأن الرهان الغربي على انهيار الاقتصاد الروسي لم يتحقق، معتبراً أن روسيا تتعرض لعدوان عقوبات غير مسبوق يهدف إلى إحداث انهيار لاقتصاد البلاد خلال فترة وجيزة "عن طريق سرقة احتياطات العملات وإحداث انهيار للعملة الوطنية الروبل وإثارة تضخم مدمر".

المساهمون