استمع إلى الملخص
- أزمة جزيرة الوراق في مصر تعكس تحديات في التعامل مع حقوق الملكية، حيث تسعى الحكومة لتحويل الجزيرة إلى مجمعات سكنية وسياحية، مما أدى إلى صراع مع السكان بسبب التعويضات غير العادلة.
- تعاني مصر من أزمة مؤسسية تؤثر على الاقتصاد بسبب سياسات تفتقر إلى احترام حقوق الملكية، مما يؤثر سلبًا على مناخ الاستثمار، ويتطلب تحسين الإطار المؤسسي لتحقيق التنمية المستدامة.
رغم السمعة السائدة عن الصين بصفته بلداً استبدادياً بالمعايير التقليدية للديمقراطية الحديثة، في نسختها الغربية خصوصاً، والتي لم نعرف غيرها تاريخياً. على أيّ حال، وبغض النظر عما في ذلك القول من أخذ ورد يدور ما بين التفصيل والتحفّظ، تشتهر عن ذاك البلد وقائع متعددة عن احترام الدولة حقوق مواطنيها، إلى حدّ أنه في واقعة شهيرة جداً لم تُزل منزل أحد المواطنين رغم احتلاله وسط الطريق بمقاطعة شينجيانغ؛ حتى إن البيت أصبح دوّاراً رئيسياً للطريق.
وهي ليست الحالة الوحيدة في الصين، فقد اشتهرت ظاهرة باسم "البيوت المسامير"، عبر ما رصده على سبيل المثال تقرير لشبكة "سي أن أن" الأميركية في نسختها العربية، بعنوان "طرقات تلتف حول منازل عنيدة رفض أصحابها تركها بالصين"، أشار إلى تسع حالات في مقاطعات عدة كقوانغشي وشانشي وهونان وتشونغتشينغ وجيانغسو، إذ توجد هناك بيوت صغيرة جداً لم تتجاوز الطابق الواحد ولا الغرفة الواحدة، ما يؤكد كونها سياسة عامة تلتزمها الدولة الصينية باحترام حقوق وممتلكات مواطنيها مهما تضاءل شأنها، ومهما بدت نتيجتها نشازاً بالنسبة لمحيطها.
تلك واقعة متكرّرة لا تقتصر على الصين، بل نجد أشباهها في العديد من الدول التي احترمت حقوق مواطنيها وكيّفت مشاريعها وفقاً لحقوقهم، كحالات معروفة في إسبانيا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة وغيرها، منها حالة لسيدة آسيوية الأصل، رفضت بيع منزلها للـ"تايكون" العقاري والرئيس الأميركي المقبل، والأسبق، دونالد ترامب، وحالة لمنزل يتوسّط واجهة جامعة بُنيت حوله، ومنزل آخر تُرك لصاحبه النصف الخاص به -حرفياً- بعد تنازل شريكه عن نصيبه في نصف المنزل!
نموذج جزيرة الوراق
لا يمكن إلا أن نتذكّر هذه الوقائع التي تبدو غريبة على المواطن العربي الذي تعامله الدولة متاعاً لا حقوق له، عندما ننظر في الوقائع النقيضة المتكرّرة في مصر مُؤخراً، وعلى رأسها ما تشهده جزيرة الورّاق منذ عام 2017، التي وصل الأمر بها إلى اشتباكات عنيفة بين الشرطة والأهالي، اعتُقل فيها بعضهم، بل سقط أحدهم قتيلاً خلال محاولة هدم أحد المنازل، والتي وصل إجمالي ما هُدم منها فعلاً بالجزيرة إلى حوالي 700 منزل.
تأتي خصوصية جزيرة الوراق من موقعها المتميّز وسط النيل، وكونها أكبر جزر النهر داخل مصر بمساحة 1500 فدان تقريباً، يعيش عليها نحو 120 ألف مواطن، والتي يدور بها وحولها حالياً صراع ممتد منذ سبعة أعوام تقريباً بين الحكومة وأهالي الجزيرة.
منبع ذلك رغبة الحكومة في تحويل الجزيرة إلى مُجمعات سكنية وسياحية فاخرة بقيادة بعض المستثمرين العرب، بعد نقل سكانها إلى مناطق أخرى، على غِرار ما فعلت بماسبيرو ومناطق أخرى، فيما لا يريد كثير من السكان ترك المكان الذي عاشوا به وأسرهم الممتدة أجيالاً وراء أجيال، الذين تعود تواريخ وجود بعضهم وملكيتهم القانونية بالجزيرة إلى عام 1850.
بينما لا يرى بعضهم الآخر، الموافق مبدئياً على التنازل والانتقال من الجزيرة، التعويضات المعروضة من الحكومة عادلة أو مُرضية، سواءً بمقاييس أسعار السوق السائدة في مثل هذا الموقع المتميّز بقلب القاهرة والنيل، أو حتى بمقاييس تعويضهم عنه بنظير مُشابه، ولو جزئياً، كقيمة ومنافع.
علماً بأن مطالب الأهالي لا يمكن وصفها بالمبالغة أو الشطط؛ بالنظر لقيمة مواقع حيازاتهم في السياق العقاري المصري، فتتراوح مطالبهم ما بين أن يكونوا جزءاً من مشروع التطوير في الجزيرة بمُجمع سكني للأهالي على مساحة 300 فدان منها فقط، والتنازل عن الباقي للحكومة تقيم عليه ما شاءت من مشاريع، أو التعويض العادل بـ"شقة مقابل شقة" خارج الجزيرة.
لكن الحكومة إما تعرض شققاً خارج الجزيرة بمناطق بعيدة وأقل كثيراً في القيمة العقارية كحي الأسمرات وما شابه، أو تعرض تعويض 7000 جنيه، أي ما يعادل 140 دولاراً، للمتر من الأهالي، بينما تطلب منهم 23000 جنيه لمتر الشقة التي تعرضها في المقابل، ضمن تعويضاتها المالية الزهيدة عموماً التي وصفها الأهالي بأنها "لا تكفي لشراء عِشة في القاهرة أو الجيزة" التي تقع جزيرتهم بقلبها.
جزء من أزمة أكبر
الواقع أن حالة جزيرة الوراق وما شابهها تعكس على مستوى ذرّي كامل الأزمة المؤسسية التي تعانيها مصر عموماً، وتكاد تقوّض مسارها الاقتصادي كاملاً، من اعتباطية وعشوائية القرارات والسياسات والانتهاك المتواتر لمبادئ الدستور والقانون، فضلاً عن عدم احترام الحقوق الأساسية للأفراد، وعلى رأسها حق الملكية الخاصة المركزي في نظام اقتصادي رأسمالي الطابع.
ففي بلد أخذ مساراً رأسمالياً ليبرالياً، يمكن أن يظل النظام السياسي استبدادياً إلى حين، دون ضرر كبير بالأداء الاقتصادي؛ فخلافاً لأوهام الليبراليين لا توجد علاقة حتمية ما بين الرأسمالية والديمقراطية، بل كثيراً ما انتعشت الأولى بانتكاسات الثانية، لكن ما يستحيل أن تنجح معه هو عدم احترام حقوق الملكية الخاصة والحرية النسبية للسوق؛ فذلك جوهر النظام الرأسمالي الذي لا يقوم إلا به، ويمثّل غيابه تناقضاً مركزياً كفيلاً بحدّ ذاته في فشل كامل الأداء الاقتصادي والجهود التنموية مهما حسنت النوايا وتعاظمت الجهود.
وإذا كنا قد اخترنا طريقاً رأسمالياً للتنمية، مهما كانت مآخذنا وتحفّظاتنا على ما يتضمّنه من مشاكل وتضحيات اجتماعية، فليتسم تطبيقنا له على الأقل بالاتساق الذاتي؛ حتى يُؤتي أيّ ثمار، وإلا انتهى بنا الأمر لجني شوكه دون وردِه وحنظله دون ثمرِه؛ بسبب المالية الجبائية قصيرة النظر ضيقة الأفق وتحالف البيروقراطية /المحاسيبية الاحتكاري وضيع المصالح.
إن حالات كجزيرة الوراق، التي يمتلك سكانها عقود ملكية قانونية مُوثّقة يعود بعضها إلى أكثر من 170 سنة، مهما كانت دوافع ومبرّرات الحكومة، والتي لا يخلو بعضها من المشروعية بحدّ ذاته، تعطي صورة سلبية عن الحالة العامة للقانون والمواطنة في البلد، فضلاً عن مصداقية وجودة مناخ الاستثمار، المهم بشكل خاص لتشجيع القطاع الخاص وجذب الاستثمار الأجنبي الذي أصبحنا نلهث خلفه بكل الوسائل ونقدم له كل التنازلات المقبولة وغير المقبولة.
ومما يُفاقم هذه الحالة من التهلهل المؤسسي حِزمُ القوانين الجديدة التي تنتهك أبسط حقوق المواطنين، كقانون الإجراءات الجنائية مُؤخراً، وقبله التعديلات الجديدة لقانون نزع الملكية للمنفعة العامة، موضوعنا هنا، الذي لم يكتف بتوسيع صلاحيات الحكومة في هذا الشأن، بل منع إمكانية التقدّم بأيّ نقض على قرارات الحكومة؛ ليحرم المواطن نهائياً من حقه في التظلّم، سواءً من القرار نفسه أو من حجم التعويض المعروض.
وهو ما ينعكس بمزيد من التدهور على ما يُعرف بمؤشر "أمن الحيازة"، الذي قدّر ضمنه مرصد العمران المصري أن 70% من الأسر المصرية لا تحظى بحيازة آمنة بناءً على بيانات الفترة 2006-2014، فحتى لو كان المبني مُرخّصاً، فإن ذلك لا يعني ولا يشمل بالضرورة إثباتاً لملكية الأرض المُقام عليها، ما يتصل بإشكالية مؤسسية أعمق هي غلبة عدم تسجيل الملكية العقارية في مصر، التي تشير بعض التقديرات إلى تجاوزه 90% من الملكيات العقارية في مصر أوائل الألفية، بل وتصل نسبة عدم التسجيل إلى 95% من الملكيات العقارية بالقاهرة عام 2008.
وهو ما انعكس في تأخّر موقع مصر على مؤشر تسجيل الملكية بمكوناته الأربعة (حجم الإجراءات والوقت المطلوب والتكلفة كنسبة من العقار ونوعية نظام إدارة الأراضي)، باحتلالها المرتبة 119 من 185 دولة غطّاها المؤشر عام 2018، متخلّفة حتى عن متوسط مرتبة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عليه، المُقدرة بـ 93، بقدر معتبر.
ورغم أن الدستور المصري يفترض حماية الملكية الخاصة، ويحظر بشكل صريح بالمادة (63) التهجير القسري للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، بل ويعتبره جريمة لا تسقط بالتقادم، فإن ذلك لا يمنع الممارسات الملتوية للضغط على الأهالي للتنازل عن ممتلكاتهم، كما يحدث الآن مع جزيرة الوراق.
فبعد فشل أساليب التهديد والعنف والتعويضات غير العادلة، من حصار للجزيرة و"المعدّيات" التي يعتمد عليها الأهالي في الحركة منها وإليها، ووقف العديد من الخدمات الحكومية كخدمات البريد والصحة والزراعة والطب البيطري بالجزيرة لتطفيش الأهالي، والذي يمثّل مرة أخرى انتهاكاً لحقوق المواطنة وتخلياً عن واجبات الحكومة المختلفة.
فضلاً عن مخالفة منطق السوق الذي يحتّم التعامل بآليات العرض والطلب في تبادل الأصول المختلفة ضمن صفقات طوعية رضائية بين جميع أطرافها دونما ضغوط أو تلاعبات مادية أو معنوية، تستغل ضمنها الحكومة قوتها القاهرة على مواطنيها، وتستكثر عليهم الحصول على ثمن عادل يرتضونه لممتلكاتهم، وفقاً لمعطيات السوق الحر؛ لمجرد كونهم فقراء بلا سند أمامها ولا حظوة لديها!
رؤية الاقتصاد من ثُقب إبرة
ينقلنا هذا إلى الإشكالية الاقتصادية الكامنة في تصوّرات الحكومة للاستثمار والتنمية، وهي استمرارها في التخبط داخل نمط الانفتاح الساداتي اللاتصنيعي، بما يتضمّنه من استمرار الهيمنة الاستثمارية لقطاعات العقارات والسياحة الخدمية الريعية، محدودة الإنتاجية سريعة التشبّع فائقة التقلّب، والتي تشبّع أوّلها خصوصاً على صعيد الإسكان الفاخر، وأصبح عموماً ثقباً أسود لفوائض الاقتصاد على حساب القطاعات الأكثر إنتاجية كما أشرنا في مقال سابق (الورم العقاري: الثقب الأسود لفوائض الاقتصاد المصري، العربي الجديد، 19 إبريل 2023).
هذا النمط الذي بلغنا ذُروته مع العاصمة الإدارية الجديدة، التي كلّفتنا حوالي ستين مليار دولار دون عائد حتى الآن، يعكس قصوراً في الخيال التنموي، وعجزاً عن استيعاب الحدود الضيقة للقطاعات الخدمية والريعية، بل وعدم صلاحيتها رائدة نمو اقتصادي وتشغيلي في البلدان كبيرة الحجم كمصر، بما يتضمّنه ذلك من سذاجة الاعتقاد بإمكانية المضاهاة الاستعراضية لأنماط التنمية الاقتصادية والتحضّر العُمراني ببلدان الخليج النفطية.
وهي ليست بلداناً ذات ملاءات مالية ضخمة فقط لأسباب استثنائية، لكنها وهو الأهم بلدان صغيرة مساحة وسكاناً، لا يمكن لأغلبها مع ضيق أسواقه بناء صناعات استراتيجية كُبرى، بل يناسبها أكثر التخصص في صناعات أصغر متكاملة مع الخارج، مع إمكانية الاكتفاء نسبياً بالقطاعات الخدمية والريعية كقطاعات مُولّدة للدخل والتوظّف، الأمر الذي لا يمكن أن يناسب بلداً ضخماً كمصر ذات المئة وسبعة ملايين نسمة.
كما أن قِصر النظر المالي، المُتزايد تحت ثِقل الأزمة المالية الخانقة، الذي يحكم تصوّرات ويحدّد أولويات الحكومة المصرية التي أصبحت مشغولة حصراً بتوليد موارد مالية بأيّ طريقة، بما في ذلك بيع الأصول والأراضي للمستثمرين الأجانب، يذكّرنا بحتمية أن ترتقي الحكومة عن دور سمسار الأراضي وملتزم الجباية الذي تردّت إليه في العقود الأخيرة إلى دورها الحقيقي الأشمل باعتبارها كياناً اعتبارياً. يُفترض أن يصبح "دولة تنموية" دورها الأساسي تطوير الإطار المؤسسي والبناء الهيكلي والتوجّه الاستراتيجي للاقتصاد ليعمل بكفاءة أكبر باطراد.
و يشمل ذلك بالضرورة إدراك، أولاً، أنه ليست كياناً له مصالحه الخاصة، بما في ذلك الجباية لزيادة الإيرادات العامة كهدف منفصل بحدّ ذاته عن مُجمل السياسات العامة، وثانياً: أن المكاسب المالية قصيرة الأجل لن تعوّض أبداً الخسائر النوعية الاستراتيجية لفقدان الثقة والمصداقية داخلياً وخارجياً، الناتج عن الممارسات الفجّة والملتوية التي تنتهك حكم القانون والدستور وحقوق المواطن، وتسمّم مناخ الاستثمار والاقتصاد بعمومه.
ولا شك أنه لا أحد يمكن أن يرفض أو يعترض على أهداف التطوير العُمراني والسياحي بحدّ ذاتها؛ فلا أحد يحب استشراء العشوائيات بكل مشاكلها، أو يكره تحديث القاهرة لتواكب أحدث المعايير الحضرية العالمية، لكن يجب، أولاً، ألا يكون ذلك على حساب حقوق المواطن المصري، المُفترض أنه المُستهدف النهائي بمكاسب ذلك التطوير من جهة، وثانياً، أن يجري وفقاً لمنطق القانون والمعيارية المؤسسية النزيهين؛ بما يدعم الثقة العامة في مشروعات الحكومة، ويستقطب القدرات الاستثمارية الداخلية والخارجية لصالح الاقتصاد والمجتمع بعمومه من جهة أخرى.
فليس ثمة نجاح مُحتمل دون تلك الشروط، ليس فقط لاعتبارات النجاح التقني للتنمية بتوفير شروط المؤسسية التي تحفّز قدوم الاستثمار الذي نحتاجه بشدة، بل كذلك لاعتباراته الاجتماعية، التي تمثّل محتوى وهدف التنمية وضمانة استدامتها، من إشراك المصريين في ثماره، وليس إقصاؤهم عن المشهد، كما لو كانت مصر شيئاً آخر غير المصريين أنفسهم!