من يمر على منطقة عين زغوان في تونس يلحظ دكاناً غريباً كأن الزمن توقف عنده منذ ستينيات القرن الماضي، يقبع داخله رجل سبعيني. لا يحمل المحل لافتة تدل على ما يبيعه أو يصنعه الرجل، لكن عند الدخول إلى الدكان تجد العم حسين (70 عاماً)، صانع الفوانيس والأواني النحاسية العتيقة منذ أكثر من 40 عاماً.
يربط العم حسين حزاماً متيناً على خصره يشده إلى آلة حديدية تدور دون توقف وهو منفصل تماماً عن العالم الخارجي، فكل تركيزه ينصب على القطعة النحاسية التي يطوعها بآلته ويديه، فهو بصدد بداية صنع فانوس نحاسي تقليدي.
يقول لـ"العربي الجديد": "منذ عمر العشرين وأنا أمارس هذه المهنة ورغم محاولة الناس إقناعي بتركها بحجة أنها لا تدر علي أرباحاً إلا أنني رفضت، وأنا سعيد جدا بمهنتي".
يتمسك العم حسين بمهنته فهو متمسك بها منذ أكثر من أربعين عاماً وهو واحد من قلّة يحافظون على مهنهم القديمة رغم أنها لم تعد تدر عليهم أرباحا في ظل تفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية، وقد بدأت مهنة صناعة الفوانيس في الاندثار وصارت حكرا على من بقوا متمسكين بها كهواية قديمة لا غير، وهم يعدون على الأصابع.
محل عتيق ونادر
حال دخولك إلى المحل تشعر لوهلة بأنك في مغارة قديمة تحتوي على أشياء نادرة ونفيسة لكن غزو الكهرباء وتطور التكنولوجيا حالا دون نفض الغبار عنها، إلا أن ذلك لم يمنع العم حسين ولم يثنه عن مواصلة صناعة الأواني والفوانيس النحاسية التي يتفنن في صنعها كما في الثمانينيات تماماً، يقول لـ"العربي الجديد": "أحب عملي جداً وسعادتي تكمن في إتقان نقشات على الفوانيس أو صناعة قطعة نحاسية متقنة".
معدات ومسامير وبقايا فوانيس قديمة وآلة لتنظيف النحاس وأخرى لتطويعه، جميعها تراكمت في محل تكاد حيطانه تتداعى من القدم، أو أكثر وما زال صاحبه متمسكا به لا يفارقه، فتلك الأدوات هي عائلته الثانية وفوانيسه هم أولاده الذين يعتني بهم أيما عناية.
يقول: "لا تستهويني مشاهدة التلفاز في أوقات الفراغ أو بعد الإفطار فمهنتي مسلية وأقضي معظم وقتي داخل محلي أنظف وأصنع وأبتكر".
يحتوي المحل على فوانيس قديمة كانت تسمى قديما "القازة" وقد جمعها العم حسين في دكانه لتلميعها وصيانتها فهي تذكره بطفولته، فقد كان سكان الأرياف في تونس قديما يستخدمون "القازة" للإنارة قبل أن تدشن الدولة أعمدة الكهرباء.
في الحركة بركة
رغم عدم رواج بضاعته كما سبق، إلا أن العم حسين يواصل صنع الفوانيس التي صارت تستخدم للتزيين والديكور بدل الإنارة، ويقبع في محله لساعات طويلة يصنع ويركب فانوسا نحاسيا جميل الشكل ثم يأخذه إلى وسط المدينة ليبيعه ويعود فرحا، ليس بالدنانير القليلة بل برغبة الناس في صناعته.
يقول لـ"العربي الجديد": "يتطلب صنع الفانوس مالاً وجهداً مضاعفاً عن السابق بسبب غلاء النحاس وكبر سني لكن سعادتي لا توصف عندما يعجب الناس في السوق بما صنعته يداي".
يحدثنا العم حسين عن شبابه وبداية مزاولته مهنة صنع الفوانيس النحاسية وغيرها في شركة فرنسية في تونس بحسرة كبيرة، فهو يقول إن الاهتمام بالنحاس تراجع رغم أنه معدن له قيمة عالية.
يشرد قليلاً وكأنك به يراجع شريط ذكرياته مع المهنة ثم يستطرد قائلاً: "كلفت وزملائي في الشركة بتزويق أبواب قصر قرطاج بالنحاس الخالص في عهد حكم زين العابدين بن علي وكان وزير الصناعات التقليدية حينها معجبا بعملنا".
بابتسامة خفيفة تخفي تحت طياتها أسفاً على تراجع الاهتمام بالصناعات اليدوية وغلاء سبائك النحاس في البلاد يؤكد العم حسين على عدم ترك حرفته حتى آخر رمق في حياته ويقف صامدا وسط محله بعينين يملأهما التفاؤل والإصرار، ورغم كبر سنه إلا أنه بمثابة إسفنجة تمتص المشاعر السلبية وتحول المحل القديم إلى مصدر عزم وطاقة إيجابية.