ينهمك الفلسطيني سليم العكلوك أبو خليل في تنجيد الفُرش والوسائد في ورشته الصغيرة غربي مدينة غزة، مُستخدماً القطن والأقمشة وبعض الماكينات العتيقة، في مهنة قديمة يجهد للمحافظة عليها منذ ما يزيد عن أربعة عقود.
ويفوح عبق الماضي في داخل الورشة الصغيرة، فيما يُعاند صاحبها اندثار مهنة التنجيد التي يعيش منها هو وأسرته، إذ يعتمد عليها بشكل أساسي في توفير مختلف المصاريف ومستلزمات الحياة اليومية.
ويُعَدّ أبو خليل من بين آخر المنجّدين الذين يتمسّكون بالمهنة، على الرغم من مختلف التحديات والظروف الصعبة التي يواجهها، من بينها الأوضاع الاقتصادية الصعبة والمنافسة الشرسة من قبل البضائع الجاهزة والمستوردة وغلاء المواد الخام الخاصة بالمهنة نتيجة عدم دخول تلك المواد الأساسية بفعل الحصار الإسرائيلي المشدّد المفروض على قطاع غزة منذ 16 عاماً.
يقول أبو خليل، البالغ من العمر 58 عاماً، لـ"العربي الجديد"، إنّه بدأ العمل في هذه المهنة القديمة التي تواجه خطر الاندثار عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، وهي من وجهة نظره "المهنة الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها" على الرغم من التهديد الذي تتعرّض له بفعل الظروف الراهنة.
ويعيل أبو خليل، وهو من سكان مخيّم النصيرات وسط قطاع غزة ويعمل في مدينة غزة، أسرة مكوّنة من 18 ابناً وابنة إلى جانب زوجته، علماً أنّه لا يمتلك أيّ مصدر دخل آخر غير مهنة التنجيد. ويبدأ أبو خليل العمل يومياً عند الساعة التاسعة صباحاً، ويمضي به حتى المساء، متنقّلاً ما بين الماكينات والعمل اليدوي.
ويبدو أبو خليل منسجماً مع عمله وهو يتّكئ على ركبتَيه وقد أحاط القطن به تمهيداً لحشوه في الفُرش والوسائد والأغطية، ويؤكد أنّه "على الرغم من انتشار المنتجات المستوردة والجاهزة، فإنّ ثمّة من يفضّل شراء الفرشة المنجّدة يدوياً"، إذ هي قائمة بشكل أساسي على "القطن الطبيعي المريح".
ويملأ أبو خليل العكلوك ورشته القديمة كما خارجها بأنواع الفُرش المختلفة، ويجمع ما بين القطع القديمة التي يجدّدها أو يعاود تصنيعها، وما بين القطع المكسوّة بالأقمشة الجديدة، في حين تعلو كوم القطن عند مدخلها.
ويشرح أبو خليل أنّ عملية التنجيد تمرّ بمراحل عديدة، وأنّه لا بدّ من توفير الكميات المناسبة للعمل قبل كلّ شيء، ويتحدّث عن "نفض" القطن يدوياً أو باستخدام الماكينة، وذلك يتوقّف على توفّر التغذية بالتيار الكهربائي، أمّا الغرض من ذلك فتفتيت القطن أو "فكفكة" أجزائه لتسهيل عملية استخدامه في حشو الفُرش والوسائد. بعدها، تأتي مرحلة الحشو وضرب القطن باستخدام عصا خشبية. كما يلجأ إلى استخدام ماكينة خرط الإسفنج، إلى جانب ماكينة تجهيز الأقمشة وخياطتها بعد حشوها.
وكان أبو خليل يوفّر المواد الخام من الجانب الإسرائيلي، لكنّ الحصار وإغلاق المعابر المتواصل جعلاه يعتمد بشكل رئيسي في توفير القطن والإسفنج على الجانب المحلي من خلال شراء الفُرش القديمة.
ويشير أبو خليل، الذي يحرص على الحفاظ على الملامح القديمة والأصيلة لورشته، إلى مختلف الظروف التي أثّرت على عمل التنجيد، وفي مقدّمتها الأوضاع الاقتصادية التي ألقت بظلالها على مختلف نواحي الحياة في قطاع غزة، ويؤكد أنه "نحاول الوقوف إلى جانب الناس من خلال توفير منتجات ذات جودة عالية تستطيع منافسة المنتجات الجاهزة بأسعار زهيدة، تقديراً للأوضاع المادية الصعبة التي يمرّ بها أهالي القطاع المحاصر".
ويشدّد أبو خليل على أنّ مهنته التي أوصاه بها والده، الذي بدوره ورثها عن جدّه، هي "مهنة فلسطينية تراثية أصيلة"، ويفخر بأنّه نجح في الحفاظ على جانب من الجوانب التراثية المهمة التي تشكّل بمجموعها الحضارة والهوية الفلسطينيتَين، يضيف أنّه تمكّن من خلال هذه المهنة من تربية أولاده وتعليمهم.
ومهنة التنجيد من المهن ذات الطابع التراثي القديم التي كانت منتشرة في مختلف محافظات قطاع غزة، وتعتمد عليها شريحة كبيرة من المواطنين بشكل أساسي، نظراً إلى عدم توفّر بدائل من المنتجات الجاهزة والمصنّعة آلياً. لكن في الآونة الأخيرة، اختفت محال وورش التنجيد بسبب توفّر منتجات منافِسة.
تجدر الإشارة إلى أنّ مهناً يدوية وصناعات فلسطينية كثيرة تعرّضت للاندثار بفعل الحداثة وتطوّر الصناعات الآلية، من قبيل صناعة الفخار، وحياكة السجاد المنزلي بالنول، والدِباغة، وإصلاح بوابير الكاز، وتبييض النحاس، وغيرها. كذلك، ثمّة مهن أخرى تواجه خطر الاندثار من قبيل مهنة الإسكافي على سبيل المثال لا الحصر.