- القرار بقطع العلاقات التجارية يعكس تحولًا في السياسة التركية، مدفوعًا بالضغوط الشعبية والخسائر الانتخابية، مع التأكيد على عدم رفعه حتى تأمين وقف إطلاق نار دائم وتدفق المساعدات لغزة.
- هذا القرار يشكل تحديًا للعلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل، مع تأثيرات اقتصادية متبادلة وخسائر مهمة للشركات التركية، لكنه يظهر التزام تركيا بالقضية الفلسطينية وقد يحفز دولًا أخرى.
منذ بداية الحرب الهمجية على قطاع غزة رأى الكثيرون أن الموقف التركي لم يرقَ إلى المستوى المأمول، وبمرور الوقت تعالت أصوات محبي الرئيس رجب طيب أردوغان بالمطالبة باتخاذ إجراءات أكثر حسماً مع دولة الاحتلال، وكان الرد الدائم أن تركيا فعلت وقدمت كل ما تستطيع أن تقدمه وفقاً لظروف المرحلة الحالية محلياً ودولياً، خاصة أن تركيا اتخذت عدة قرارات متدرجة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي.
والحقيقة أن اتخاذ تركيا القرار الأخير بتعليق تجارتها كلياً مع إسرائيل جاء متأخراً، وبغض النظر عن كونه تعديلاً للمسار بعد الخسارة الكبيرة للحزب الحاكم في الانتخابات المحلية، فقد كشف أن هناك خطوات أكثر حسماً من الممكن أن تتخذ لردع الهمجية الصهيونية، وأن محبي النظام التركي كان يقدمون النصيحة الأمينة التي تعبر عن مشاعر القطاعات العريضة من الجماهير التركية التي طالما ساندت الرئيس أمام صناديق الاقتراع في العديد من الانتخابات السابقة، وأن أصحاب الأصوات الصاخبة شوشوا علي صانع القرار وسبّبوا هزيمة انتخابية كبيرة للحزب الحاكم، ولعل ذلك الدرس القاسي يكون مفيداً لكلا الطرفين، لحملة مباخر الأنظمة الذين لا يتوقفون عن الهتاف والإشادة، وللأنظمة التي تبتلع تلك التهليلات من دون قراءة أكثر عمقًا لمشاعر الجماهير العريضة مما يسبّب توريطها لاحقاً.
وتجدر الإشارة في ذاك السياق أن النظام التركي اتخذ بالفعل بعض القرارات على طريق معاقبة الكيان الصهيوني، فمع اندلاع الحرب أوقفت شركة الطيران التركية الرحلات إلى إسرائيل، وفي الشهر نفسه جرى تعليق التعاون التركي الإسرائيلي في مجال الطاقة، وإلغاء زيارة وزارية تركية كانت مقررة سلفاً إلى تل أبيب.
وفى يناير/كانون الثاني الماضي استبعدت تركيا إسرائيل من الوجهات المستهدفة بالتصدير مع رفع الدعم عن الشركات المصدرة للكيان، وجاءت أقوى القرارات في إبريل الماضي حينما قيّدت تركيا تصدير 54 سلعة إلى إسرائيل، واشترطت الوقف الفوري لعدوانها على قطاع غزة لرفع القيود، وشمل الحظر تصدير وقود الطائرات وحديد الإنشاءات والفولاذ المسطح والرخام والسيراميك وغيرها.
ثم جاء القرار الرسمي الأخير بإعلان قطع جميع العلاقات التجارية مع إسرائيل، وأكد وزير التجارة التركي عمر بولات أنه لن يتم التراجع عنه حتى تأمين وقف إطلاق نار دائم في غزة وتدفق المساعدات الإنسانية بدون عوائق للفلسطينيين هناك، وبذلك تكون تركيا أول شريك من الشركاء التجاريين الرئيسيين لإسرائيل يوقف التصدير إليها والاستيراد منها بسبب حربها على غزة.
والملاحظ هنا أنه للمرة الأولى نجد أن الخلافات السياسية تعصف بالتجارة، فقد أبرمت تركيا العديد من الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل قبل صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وعقب الصعود أبرم هو الآخر العديد من الاتفاقيات الجديدة التي أدت إلى تصاعد العلاقات الاقتصادية بينهما إلى مستويات الشركاء الرئيسيين، وحرص الطرفان على إبعاد تلك العلاقات عن الخلافات السياسية بينهما، وتجلى ذلك في تصاعد الأرقام التجارية بينهما على الرغم من القطيعة السياسية التي أعقبت الاعتداء الإسرائيلي علي السفينة مافى مرمرة عام 2010، واستمرت الصادرات التركية في التصاعد المستمر وذلك على الرغم من المناوشات السياسية المستمرة طوال الفترة السابقة.
وبحسب أرقام الميزان التجاري بين البلدين، صدّرت تركيا لإسرائيل منتجات بأكثر من 5.4 مليارات دولار، واحتلت إسرائيل بذلك المركز الـ13 في قائمة الدول الأكثر استيراداً للمنتجات التركية خلال عام 2023، لتشكل 2.1% من مجموع الصادرات التركية، وجاءت أهم صادرات أنقرة إلى إسرائيل الصلب والمركبات والبلاستيك والأجهزة الكهربائية والآلات، بينما هيمن الوقود على الواردات، بكلفة بلغت 634 مليون دولار العام الماضي.
وتعكس هذه الأرقام صعوبة اتخاذ ذلك القرار حيث ستتضرر العديد من الشركات التركية التي كانت ترتبط بعقود فعلية للتصدير وأنتجت بالفعل تلك الطلبيات، وقد عبر المسؤولون الأتراك عن ذلك بتأكيدهم أن الخسارة الاقتصادية المؤكدة كانت ثمناً بسيطاً للمكاسب الإنسانية، كما أكد أردوغان أن تركيا مستعدة لدفع ثمن هذا القرار على المستوى العالمي.
ومن المؤكد أن الأوضاع المتأزمة للاقتصاد التركي هي أحد الأسباب الرئيسية التي أخرت اتخاذ هذا القرار طيلة الفترة الماضية، خاصة في ظل تفاقم أزمة التضخم الذي لامس معدله ما يقارب 70% في نهاية إبريل/نيسان الماضي، واستمرار انخفاض سعر صرف الليرة الذي يتوقع البنك المركزي التركي أن ينزلق إلى 40 ليرة للدولار الواحد بنهاية العام الحالي في مقابل 32.5 ليرة فقط حالياً.
وكانت الإدارة التركية تعول كثيراً على تزايد الصادرات لسداد جزء من الالتزامات الخارجية التي سبّبت انخفاض الليرة خلال الثلاثة أعوام الماضية، ولكن مع قرار تعليق التجارة مع الكيان وطبقاً لجمعية المصدرين الأتراك فإن الحكومة سيكون عليها تقليص مستهدفات التصدير لنهاية العام إلى 260 مليار دولار بدلاً من 267 ملياراً ما لم تُستأنف التجارة مع إسرائيل في غضون شهرين.
وعلى الرغم من أن خسائر الاقتصاد التركي قد تمتد أيضاً إلى تعويضات قانونية تضطر الشركات إلى دفعها حال لجوء الشركات الإسرائيلية إلى المحاكم الدولية، إلا أن من المؤكد أن الخسائر الإسرائيلية ستكون كبيرة جراء القرار التركي، خاصة أن قطاعات إسرائيلية مهمة تعتمد على الواردات التجارية وبنسب كبيرة للغاية وفي مقدمتها قطاع البناء الذي يستورد 70% تقريباً من احتياجاته من الصلب والأسمنت من تركيا، وهو القطاع الأكثر معاناة بعد الحرب الإجرامية على قطاع غزة.
كما ستسبّب القرارات التركية المزيد من المعاناة للاقتصاد الإسرائيلي كله في ظل صعوبة تعويض تلك الواردات في الأجل القصير، وإن تم الاتفاق مع شركات جديدة من دول أخرى فمن المؤكد أن ترتفع تكاليف الاستيراد مقارنة بالمنتج التركي الذي يتمتع بتكلفة شحن أكثر انخفاضاً نتيجة للقرب الجغرافي، علاوة على المزايا التنافسية العالمية التي يتمتع بها المنتج التركي، وهو الأمر الذي أكده بنك جيه بي مورغان الاستثماري الأميركي من "أن تعليق التجارة ربما يزيد زيادة هامشية من الضغوط على أسعار البضائع في إسرائيل على المدى القصير".
ومن الخسائر الإسرائيلية كذلك وفق صحيفة نيويورك تايمز ما أعلنته تركيا بتعليق جميع أشكال التجارة مع إسرائيل ربما يكون أحدث سلسلة تجعل من "عزلة" إسرائيل "أعمق" مما كانت عليه خلال الأشهر القليلة الماضية، وأن ذلك القرار قد يشجع دولاً أخرى علي اتخاذ خطوات مشابهة، وهو الأمر الذي أكده أردوغان بقوله إنه يعتقد أن هذا "سيكون مثالاً يُحتذى به لدول أخرى مستاءة من الوضع الحالي".
أخيراً، لا شك أن الخطوة التركية الأخيرة جديرة بالترحيب حتى وإن جاءت متأخرة، خاصة أن الاقتصاد التركي سيتكبد خسائر مهمة في أوقات صعبة يمر بها، وبغض النظر عن تحايل الشركات بالتصدير عن طريق وسطاء في دول أخرى من عدمه، وعن الحديث عن الاضطرار إلى تغيير المواقف عقب نتائج الانتخابات الأخيرة فإنه لا بد من الإشادة بالقرار، والإقرار بأنه قرار تاريخي غير مسبوق وأن شعوب الأمتين العربية والإسلامية تتشوق إلى قرارات مماثلة قريباً.