استمع إلى الملخص
- دور تركيا كمحور لنقل الغاز: تبرز تركيا كجسر رئيسي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر خط "ترك ستريم"، مما يعزز مكانتها الاستراتيجية في معادلة الطاقة.
- التحديات والفرص في سوق الغاز الأوروبي: تواجه أوروبا تحديات في تأمين إمدادات الغاز، بينما تسعى روسيا لتعزيز نفوذها في مناطق مثل مولدوفا وسط ارتفاع الأسعار.
ربما خسرت روسيا جزءاً من إيرادات الغاز، بعد أن أغلقت أوكرانيا خط الأنابيب الذي ينقل الإمدادات الروسية إلى أوروبا عبر أراضيها، لكن موسكو تمتلك بالفعل بدائل عدة تتيح لها شحن الوقود دون أن تتعرض لضرر اقتصادي بالغ، على عكس كييف التي ستتضرر بشكل أكبر مثل حلفائها الأوربيين، كما أن قطع الغاز الروسي سيزعزع حكومات موالية للغرب في بلدان مجاورة مثلما هو الحال في مولدوفا التي تواجه أزمة طاقة خانقة.
وتبدو مسارات تصدير الغاز إلى الصين وآسيا الوسطى وكذلك إلى تركيا التي باتت مؤهلة بوصفها نقطة عبور بديلة إلى أوروبا، أكثر حضوراً في المشهد، حيث تخطط روسيا لتوسيع صادراتها عبر هذه المسارات. وفي مؤتمره الصحافي في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ثقته في قدرة شركة الغاز الروسي العملاقة "غازبروم" على التكيف مع انتهاء النقل عبر خطوط الأنابيب عبر أوكرانيا. وأشار إلى أنه بجانب تصدير الغاز الطبيعي عبر الأنابيب ستزيد بلاده شحنات تصدير الغاز المسال قائلا: "سنواصل زيادة حصتنا في أسواق الغاز الطبيعي المسال العالمية"، رغم العقوبات التي تهدف إلى وقف هذا النمو.
وتشير التقديرات إلى أن شحنات الغاز إلى الصين التي تتفوق على أوروبا بما هي أكبر سوق للغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب وصلت إلى مستوى قياسي بلغ حوالي 31 مليار متر مكعب في عام 2024. ويُرجح أن ترتفع إلى 38 مليار متر مكعب هذا العام مع وصول خط "باور أوف سيبيريا" إلى كامل طاقته المستهدفة. هذا الرقم يعوض نصف الكميات التي فُقدت بعد توقف العبور عبر أوكرانيا، وفقاً لتقديرات سيرغي فاكونلينكو، الباحث في مؤسسة "كارنيغي للسلام الدولي".
كما قد تبيع "غازبروم" المزيد من الغاز عبر خط أنابيب "ترك ستريم" الذي يربط مباشرة بين روسيا وتركيا عبر البحر الأسود، ويساعد أيضاً في تزويد بعض العملاء الأوروبيين. وفي عام 2025، قد تبيع "غازبروم" 25 مليار متر مكعب لتركيا، و15 مليار متر مكعب لأوروبا عبر "ترك ستريم"، بحسب تقديرات فاكونلينكو، التي نقلتها وكالة بلومبيرغ الأميركية.
ورغم الدعوات الأوروبية لحظر الغاز الطبيعي المسال الروسي، تسجل أوروبا مستويات قياسية من حيث شراء هذا الوقود، وذلك بشكل رئيسي من مصنع "يامال" للغاز الطبيعي المسال بقيادة شركة "نوفاتك". وتجاوزت الكميات المصدرة ما كانت تبيعه روسيا عبر أوكرانيا قبل الأول من يناير/كانون الثاني الجاري عندما أغلقت كييف التي ترفض السماح بأي عبور يمول آلة الحرب الروسية المسار الذي استمر استخدامه لنحو خمسة عقود عبر أراضيها.
وتسلط هذه التطورات الضوء على صعوبة قطع أوروبا علاقاتها مع روسيا التي عززت مكانتها موردا رئيسيا للسلع الأساسية للقارة على مدى العقد الماضي. كما تشير إلى كيف أن غزو أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 أجبر روسيا على إعادة ترتيب شبكتها التجارية. ومع ذلك، أظهرت موسكو أنها حتى عند إغلاق إحدى الطرق إلى الأسواق، غالباً ما تجد أخرى مفتوحة.
فقد وصلت صادرات روسيا من الغاز الطبيعي المسال إلى مستوى قياسي العام الماضي، وفقاً لبيانات تتبع الشحن. وقالت تاتيانا أورلوفا، المحللة في مؤسسة "أوكسفورد إيكونوميكس" البحثية البريطانية، إن توقف معظم صادرات الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا مسبقاً يعني أن إغلاق الخط الأوكراني لن يؤثر كثيراً على الاقتصاد. وأضافت تاتيانا وفق تقرير بلومبيرغ: "ستظل أوروبا بحاجة إلى الغاز، حيث إن كل جهودها للتخلص من الاعتماد على الغاز الروسي لم تنجح". وأشارت إلى أن من المحتمل أن ينتهي بها الحال إلى شراء المزيد من الغاز الطبيعي المسال الروسي لتعويض الانخفاض في واردات الغاز الطبيعي من روسيا.
وباعت "غازبروم" حوالي 6 مليارات دولار من الغاز عبر أوكرانيا في عام 2024، وفقاً لحسابات بلومبيرغ. ومع ذلك، يتوقع معظم الاقتصاديين والباحثين تأثيراً محدوداً على الاقتصاد جراء فقدان هذه المبيعات. وتشير تقديرات المحللين إلى أن روسيا ستفقد ما يعادل حوالي 0.2% إلى 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
جسور تركية لعبور الغاز الروسي إلى أوروبا
ويشير محللون في قطاع الطاقة إلى أن انتهاء أجل اتفاقية عبور الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا، مطلع العام الجاري، يفتح المجال أمام تركيا لتعزيز مكانتها جسرا لعبور الغاز الروسي نحو القارة العجوز، عبر خط "ترك ستريم" (السيل التركي).
وقبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، كانت روسيا المورد الأكبر للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي بنسبة 45% من مجمل الاستهلاك الأوروبي للغاز، بفضل استثمارات بمليارات الدولارات في خطوط الأنابيب. ورغم أن حصة روسيا في محفظة الغاز الأوروبية بلغت 201.7 مليار متر مكعب في عام 2018، فإن هذه الكمية انخفضت بشكل كبير إلى نحو 35 مليار متر مكعب في عام 2023. ومن هذه الكمية، تم نقل 15 مليار متر مكعب عبر خطوط الأنابيب التي تمر بأوكرانيا في 2023 وارتفع قليلا إلى قرابة 16 ملياراً في 2024، بينما تم تسليم الباقي على شكل غاز طبيعي مسال.
ونتيجة للعقوبات المفروضة على موسكو بسبب الحرب، فقدت روسيا العديد من عملائها لصالح موردي الغاز الطبيعي المسال مثل الولايات المتحدة وقطر، وكذلك لصالح النرويج التي عززت قدرتها الإنتاجية. ومع إغلاق خطوط الأنابيب الرئيسية التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا مثل "نورد ستريم 1"، و"نورد ستريم 2"، وخط "يامال-أوروبا"، يبرز خط أنابيب "ترك ستريم" الذي يمر عبر تركيا بما هي مسار النقل الوحيد للغاز الروسي إلى أوروبا في حال توقفت الإمدادات عبر أوكرانيا بشكل تام.
وجرى إطلاق مشروع "ترك ستريم" في يناير/ كانون الثاني 2020 بموجب اتفاق بين تركيا وروسيا، وهو يتمتع بقدرة نقل كبيرة تجعله محط أنظار في معادلة الطاقة. ويتألف المشروع من خطين، تبلغ طاقة كل منهما 15.75 مليار متر مكعب سنويا، وحتى الآن، تمكن المشروع من نقل أكثر من 40 مليار متر مكعب من الغاز إلى تركيا، و53 مليار متر مكعب إلى أوروبا.
ووفقا لمسؤولين روس، فإن استخدام "ترك ستريم"، يمكّن روسيا من نقل ما يصل إلى 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر تركيا. وفي حديث لوكالة الأناضول، قال تاماس بلتسر، محلل النفط والغاز في شركة "إرسته إنفستمنت"، إن قرار أوكرانيا الأخير يدفع روسيا بشكل غير مباشر إلى زيادة صادرات الغاز عبر السوق التركية. وأضاف بلتسر: "بسبب إغلاق المسارات الرئيسية لنقل الغاز الروسي، أصبحت السوق التركية نقطة خروج أكثر أهمية لصادرات الغاز الروسي".
بدوره، أشار أكيرا ياناغيساوا، كبير الاقتصاديين في معهد اقتصاديات الطاقة الياباني، إلى أن حوالي 45 مليار متر مكعب من الغاز كان يتم نقلها سنوياً عبر أوكرانيا من روسيا إلى أوروبا قبل توقف الإمدادات. وقال ياناغيساوا وفق الأناضول: "نتيجة لذلك، ستضطر أوروبا الآن إلى سد الفجوة في الغاز إما عبر استيراد الغاز الطبيعي المسال من الخارج أو زيادة تدفق الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا عبر تركيا".
وعملت تركيا خلال العقدين الماضيين على زيادة قدرتها على تأمين الغاز الطبيعي المسال من خلال إنشاء مراكز تخزين وإعادة تغويز الغاز الطبيعي المسال (تحويله من الحالة السائلة إلى الغازية) وتطوير بنيته التحتية. كما وقعت تركيا عام 2024، اتفاقيات لاستيراد ما يقرب من 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال.
وبجانب الخيارين الصيني والتركي، تخطط روسيا لإعادة توجيه بعض الوقود إلى دول آسيا الوسطى وزيادة قدرة خط أنابيب قديم من الحقبة السوفييتية يربط بين روسيا وأوزبكستان عبر كازاخستان. سياسياً، تمنح قضية الغاز الكرملين فرصة لإظهار أن بوتين ليس في عزلة. وقال سيرغي ماركوف، مستشار سياسي قريب من الكرملين: "بالنسبة لموسكو، من المهم للغاية أن يتم كسر الحصار الدبلوماسي للمرة الثانية".
وأشار ماركوف، وفق ما نقلت بلومبيرغ، إلى زيارة مفاجئة قام بها رئيس وزراء سلوفاكيا، روبرت فيكو، إلى موسكو في 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي لمناقشة الغاز وقضايا أخرى. وكان فيكو ثاني زعيم أوروبي يزور موسكو منذ غزو روسيا لأوكرانيا، بعد زيارة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في يوليو/تموز الماضي. وقال بوتين الشهر الماضي إن روسيا مستعدة لشحن الغاز إلى أوروبا، لكنه حذر من أن أي اتفاق جديد قد يكون معقداً، خاصة في ظل ارتفاع الأسعار الناتج من نقص الإمدادات التي تواجهها أوروبا حالياً.
رغبة أميركية في الاستحواذ على السوق الأوروبية
مع ذلك، قد تواجه خطط الغاز عبر الأنابيب والغاز الطبيعي المسال تحديات خاصة بها. فبينما تهدف روسيا إلى بدء الصادرات عبر خط ثانٍ إلى الصين خلال عامين، توقفت المفاوضات بشأن خط أنابيب ثالث بسبب الخلافات حول الشروط. وتسعى روسيا إلى مضاعفة صادرات الغاز الطبيعي المسال ثلاث مرات لتصل إلى 100 مليون طن بحلول عام 2035، مقارنة بـ33 مليون طن العام الماضي. لكن العقوبات الغربية المفروضة على جميع المشاريع المستقبلية الرئيسية وأساطيل ناقلات الغاز المسال تجعل هذه الخطة أكثر تعقيداً.
وعرقلت العقوبات بالفعل طموحات روسيا في نمو صادرات الغاز المسال. وبينما تمكن أحدث مشاريع شركة "نوفاتك"، وهو مشروع "أركتيك LNG 2"، من بدء صادرات محدودة في العام الماضي. قيدت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها وصول المصنع إلى ناقلات الجليد اللازمة للإبحار في المياه الشمالية المتجمدة، وأبعدت المشترين الأجانب عن شراء الشحنات.
وقال كلاوديو شتوير، مستشار الطاقة وأستاذ في "آي إتش آر دي سي" في بوسطن لبلوميبرغ: "مر مشهد الغاز الطبيعي والغاز المسال بتغيرات كبيرة لروسيا في السنوات الثلاث الأخيرة"، مضيفا أن هذا يتطلب "استثمارات وجهوداً أكبر لأعمال أقل ربحية"، مع حاجة روسيا الآن للبحث عن عملاء أكثر تأثراً بالأسعار في أسواق أبعد.
وخلال العام الجاري، سيكون التركيز على قرارات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بشأن العقوبات المفروضة على روسيا، حيث تزداد الأمور تعقيداً مع طموحات الولايات المتحدة الخاصة بتزويد أوروبا بالمزيد من الغاز الطبيعي المسال.
نقص المخزونات الأوروبية وزعزعة استقرار الموالين للغرب
ويأتي إيقاف أوكرانيا الغاز الروسي العابر أراضيها في وقت تشهد فيه مستويات تخزين الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي معدلات أقل من المتوسط، بسبب عمليات السحب بغرض التدفئة خلال الطقس البارد، ما يدفع الأسعار إلى الصعود. وقالت سامانثا دارت، الرئيسة المشاركة لبحوث السلع العالمية في بنك الاستثمار الأميركي غولدمان ساكس، إن الطقس البارد سيضغط على أسعار الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي للارتفاع. وبحلول يوم الجمعة الماضي، وصلت أسعار الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي إلى مستويات لم تشهدها القارة منذ أكثر من عام، متجاوزة 50 يورو/ميغاواط/ساعة.
وقالت دارت وفق تقرير لنشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة "بينما كان العنوان الرئيسي هذا الأسبوع في مجال الغاز الطبيعي هو توقف تدفقات الغاز الروسي المتبقية عبر أوكرانيا، فإن المحرك الرئيسي لتشديد أساسيات الغاز في شمال غرب أوروبا هذا الشتاء هو الطقس الأكثر برودة من المتوسط المتوقع خلال الأسبوعين المقبلين".
وأضافت: "إذا تحققت هذه التوقعات الباردة دون تعويضات أخرى، فإننا نرى مخاطر كبيرة تتمثل في ارتفاع الأسعار إلى ما بين 63 و84 يورو/ميغاواط/ساعة في الأشهر المقبلة، وهو ما يتجاوز بكثير التوقعات السابقة عند 40 يورو/ميغاواط/ساعة لعام 2025 في ظل الطقس المتوسط.
وتُظهِر أحدث البيانات أن مخزونات الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي ممتلئة بنسبة 71.8% في بداية العام الجديد، وهو ما يقل كثيراً عن متوسط 16 عاماً الذي بلغ 74.29% لنفس النقطة الزمنية. ويشير هذا إلى أن زيادة الطلب على التدفئة وتقليص الإمدادات من شأنهما أن يجبرا القارة على استنزاف الإمدادات بأسرع معدل في أربع سنوات.
وقال وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو على "فيسبوك"، وفق ما نقلت وسائل إعلام محلية، أمس الثلاثاء، إن أوكرانيا وضعت مرة أخرى اقتصاد الاتحاد الأوروبي في موقف صعب برفضها عبور الغاز الروسي. وأشار إلى أنه بعد توقف عبور الغاز من روسيا، قفزت أسعار الوقود في أوروبا بنسبة 20%. ولفت إلى أن أوكرانيا يجب أن تمتثل لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والتي تنص، من بين أمور أخرى، على الحفاظ على إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.
كما أن إيقاف أوكرانيا عبور الغاز الروسي، يعد بمثابة فرصة ثمينة أيضا لموسكو التي تسعى إلى استخدام قطع الإمدادات في جزء من جهد منسق لإضعاف الحكومة الموالية للغرب في مولدوفا، الواقعة بين أوكرانيا ورومانيا العضو في الاتحاد الأوروبي، حيث يهدف الكرملين إلى استعادة النفوذ والسيطرة. وتسعى مولدوفا إلى تنويع مصادر الطاقة وتقليل اعتمادها على روسيا، لكن هذا سيستغرق وقتاً وقد يكون مكلفاً، وفق تحليل لنشرة "أويل برايس"، مشيراً إلى أنه ربما تأمل روسيا في استغلال الوضع لتفاقم التوتر بين حكومة مولدوفا من جانب والسلطات والمواطنين في إقليم ترانسنيستريا جنوب مولدوفا الموالي لموسكو، وإثارة السخط إزاء ارتفاع الأسعار في جميع أنحاء البلاد.