بات العالم الغربي عاريا تماما ليس فقط أمام الشعوب العربية والإسلامية، بل أيضا أمام قطاعات عريضة من الشعوب الغربية ذاتها، وذلك بعد الانحياز الأورو أميركي الصارخ للاعتداءات الإسرائيلية الإجرامية على المدنيين الفلسطينيين ليس في غزة وحدها التي حازت النصيب الأكبر من التدمير والقتل، ولكن أيضا في الضفة الغربية التي تواجه قتلا يوميا ممنهجا ضد الفلسطينيين.
وتورطت الولايات المتحدة الأميركية خلال ما يقارب الشهرين من الاعتداء الصهيوني ليس فقط بالمساندة الديبلوماسية والحيلولة دون اتخاذ قرارات دولية ملزمة بوقف العدوان الوحشي، ولكن أيضا في إمداد الكيان الصهيوني بكافة أشكال الدعم والمساعدات سواء المالية أو التسليحية، بالإضافة إلى التعاون على مستوى المعلومات والاستخبارات والإعلام.
هذا الدعم ليس وليد اللحظة، بل بسبب "العلاقة الخاصة" بين واشنطن وتل أبيب، والتي تطورت منذ اعتراف الرئيس الأميركي آنذاك، هاري ترومان، كأول زعيم عالمي بالدولة اليهودية في عام 1948، وقد استمر نهج هذا الدعم الأميركي غير المحدود للكيان في عهد كل الرؤساء السابقين للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يؤكد أن ما يقوم به الرئيس جو بايدن من الدعم القوي لإسرائيل لم يكن مفاجئا أو شذوذا عن الخط الأميركي منذ 70 عاما خلت.
وبحسب دراسة صدرت العام الحالي عن مركز خدمة أبحاث الكونغرس، فإن الولايات قدمت لإسرائيل مساعدات منذ 1948 حتى مطلع 2023 بقيمة 158.66 مليار دولار دون احتساب معدل التضخم، وفي حال احتساب معدل التضخم فإن القيمة الإجمالية للمساعدات تصل إلى 260 مليار دولار، ووفقًا لصحيفة "أمريكان نيوز"، وهو ما يعني منح دافعي الضرائب الأميركيين أكثر من 13.1 مليون دولار لإسرائيل يوميًا.
مساعدات ضخمة
يفسر الكثيرون استمرار الدعم الأميركي للكيان طوال فترة عمره السابقة بنفوذ اللوبي الصهيوني القوي داخليا، واعتقاد الرؤساء الأميركيين أن تجاوز اللوبي الصهيوني سيكلف أثمانا سياسية باهظة، وهو الأمر الذي يفسر سرعة زيارة بايدن لإسرائيل عقب اندلاع العدوان ليكون أول رئيس أميركي يزور دولة الاحتلال في وقت الحرب، مؤكدا أن وجوده في إسرائيل "لكي يعرف العالم أن الولايات المتحدة تقف إلى جانبها"، مضيفا أن "الولايات المتحدة ستتأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها" على حد تعبيره.
وبالطبع لم يتوقف الأمر عند حدود التصريحات الصحافية، حيث وافق مجلس النواب الأميركي في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري على طلب إدارة بايدن تخصيص 14.3 مليار دولار مساعدات لإسرائيل، كما أرسلت أميركا خبراء عسكريين من البنتاغون للمساعدة في خطة الاجتياح البري، بالإضافة لذلك هرعت أميركا إلى إرسال حاملتي الطائرات "جيرالد فورد" و"إيزنهاور" وسفن حربية وألفي جندي مارينز إلى الكيان الصهيوني.
وقال رئيس مجلس النواب الأميركي المنتخب حديثاً، مايك جونسون، "سنطرح مشروع قانون مستقل لتمويل إسرائيل هذا الأسبوع في مجلس النواب، أعلم أن زملاءنا الجمهوريين في مجلس الشيوخ، لديهم إجراء مماثل"، وكذلك صرّح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بأن أميركا تدرس الطلبات الإسرائيلية للحصول على مساعدة عسكرية إضافية للعملية في قطاع غزة.
عموما لا يبدو كل ذلك مستغربا، فحتى أكتوبر 2023، وقّعت الولايات المتحدة 599 عقد مبيعات عسكرية أجنبية مع إسرائيل بقيمة 23.8 مليار دولار، بحسب الموقع الإلكتروني للكونغرس الأميركي. بالإضافة إلى ذلك، وافقت الولايات المتحدة على مواصلة بيع معدات عسكرية بقيمة تزيد عن 5.7 مليارات دولار لإسرائيل من خلال المبيعات التجارية المباشرة من السنوات المالية 2018 حتى 2022.
ويشير ذلك إلى أن المساعدات المالية والعسكرية والاستخبارية هي أمور تبدو اعتيادية بين أميركا وإسرائيل إلى حد كبير، ولكن الجديد هو الانحياز الأميركي السافر واللا أخلاقي لقتل المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والنساء الذين يشكلون ثلثي أعداد الضحايا، وهو الأمر الذي أصاب قطاعات جماهيرية عريضة حول العالم بالصدمة التي تجلت في مظاهرات غير مسبوقة في جميع العواصم الأوروبية والولايات الأميركية، وهي الضغوط التي ظهر أثرها جليا في التغيير النسبي للخطاب الأميركي مؤخرا.
المصالح الأميركية باتت مستهدفة
شكل الانحياز الأميركي السافر للكيان الصهيوني حافزا لاستهداف المصالح الأميركية بكافة أشكالها، فالجماعات المسلحة في العراق واليمن ولبنان تكشف صراحة عن هذا الاستهداف، وقد نفذت بالفعل بعض العمليات ضد القواعد العسكرية الأميركية في سورية والعراق، كما وقفت الشعوب العربية والإسلامية وقطاعات لا يستهان بها من أميركا اللاتينية والأوروبيين ضد المصالح الأميركية وخاصة الاقتصادية منها.
بالطبع لا يتسع المجال هنا لتفصيل هذا الاستهداف، ولكن على سبيل المثال تشهد تركيا أكبر حملة مقاطعة في تاريخها للعلامات التجارية الداعمة لإسرائيل، ومن بينها الشركات الأميركية، وهو الأمر الذي طبقته فعليا شركة الخطوط الجوية التركية والكثير من البلديات المحلية التي أعلنت مقاطعتها رسميا لتلك العلامات.
كما كشفت وكالة رويترز أن مبيعات سلسلة ماكدونالدز مصر خلال شهري أكتوبر ونوفمبر انخفضت بنسبة 70% على الأقل، مقارنة بنفس الأشهر من العام الماضي، وأن الشركة تكافح خلال الوقت الحالي من أجل تغطية نفقاتها.
وقد امتدت المقاطعة كذلك إلى سلاسل ستاربكس، وكنتاكي الداعمتين لإسرائيل، وإن بعض الدول العربية قررت عدم الشراء من مطاعم الوجبات السريعة الغربية، لأنها اختارت الوقوف إلى الجانب الإسرائيلي في الحرب في ظل الحملات العفوية للمقاطعة التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كما امتدت حملات المقاطعة كذلك إلى الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام المتهمتين عبر شرائح شعبية عريضة بالكيل بمكيالين والانحياز للجانب الإسرائيلي، وما زالت الحملات علي منصات التواصل الاجتماعي مستمرة، وتؤكد أن المقاطعة لم تكن موقفا مؤقتا، بينما هي خيار للشعوب التي لا تملك غيرها لمقاومة الإجرام الإسرائيلي.
سقوط القيم والمصالح الأميركية
على اختلاف الأعراق والأجناس والأديان لا يمكن لأي صاحب ضمير أن ينكر المجازر الإسرائيلية النازية الوحشية بحق أشقائنا في غزة، ولذلك كشف سقوط هذا العدد الضخم من المدنيين، خاصة النساء والأطفال، عن وهم القيم الأميركية، وهو الأمر الذي أشعل موجة غير مسبوقة من العداء لكل ما هو أميركي، بالإضافة إلى الانقسامات الواضحة في الداخل الأميركي نفسه، حيث يتعرض الدعم الأميركي لإسرائيل حاليا لضغط مكثف من جانب الرأي العام، فقد ارتفعت الأصوات داخل الولايات المتحدة ترفض الانحياز المطلق لإسرائيل، وجرت استقالات احتجاجية لبعض كبار الموظفين والدبلوماسيين في وزارة خارجيتها، وكذلك كان لافتا المظاهرات الصاخبة أمام مبنى الكونغرس لجمعية "أصوات يهودية من أجل السلام" مطالبة بوقف الحرب على القطاع المحاصر، وإعلان حركة "حياة السود مهمة"، الأميركية دعمها للفلسطينيين، فحياتهم أيضا مهمة.
وربما هذا ما دفع إلى التغير النسبي في الموقف الأميركي مؤخرا، لا سيما في ظل النازية الإسرائيلية وقصفها للمستشفيات والمدارس التابعة للمنظمات الدولية، حيث أعلن مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي، جيك سوليفان، أن الإدارة الأميركية لا تستبعد إمكانية وضع شروط لتقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل.
من الواضح أن أي تغيير في الموقف الأميركي بات متأخرا للغاية، فقد تعرت أميركا عن قيمها أمام أعين شعوب العالم وشعبها كذلك، وظهرت كقوة استعمارية تساند وتدعم القتلة وتستهين بحياة الأطفال والنساء، في قضية تحرر عادلة ولم تستطع التدخل لكبح جماح النازية الصهيونية، وهو الأمر الذي سيكلفها كثيرا حاليا ومستقبلا، خاصة في ظل احتدام الصراع على مستقبل النظام العالمي، والذي يجري على الأراضي الأوكرانية، وحاليا على الأراضي الفلسطينية.