المرابون الجدد يعودون بقوة

06 يوليو 2023
مشهد من مسرحية تاجر البندقية... شايلوك يهم باقتطاع رطل من لحم انطونيو (مواقع تواصل)
+ الخط -

عندما تدير محرك البحث على الإنترنت بحثا عن أبرز المرابين في التاريخ لا تجد الكثير من المعلومات المتوافرة، أو الأسماء البارزة، أو الحوادث الشهيرة.

ربما لأن تلك المهنة كانت حقيرة ومنبوذة، وأصحابها مكروهون اجتماعيا وخلقيا وقانونيا، وبالتالي لا أحد يتفاخر بها في حال اقتراف تلك الجريمة البشعة، باعتبار أن المرابي شخص قاس ومتوحش، شديد الظلم لنفسه ولمن حوله، وأنه يعرف كره المجتمع له.

وفي حال ممارسة أحد تلك المهنة فإنه كان ينكر وبشدة فعل ذلك على الملأ لبشاعة سلوكه، واحتقار الناس له بسبب استغلاله لحاجتهم الشديدة إلى المال والتجارة في أفراد المجتمع، حتى لو وصل الأمر إلى التجارة في أعراضهم، وطلب "أوقية أو رطل لحم" من جسد المدين إذا تخلف عن دفع الدين المستحق في موعده.

في الماضي كان المرابي يصطاد الفقراء والمحتاجين والذين يبحثون عن سيولة نقدية سريعة لشراء غذاء لهم ولأولادهم

وربما كان الاستثناء هنا في عملية البحث هو تاجر البندقية الشهير، الذي رغب في الاقتراض من المرابي شايلوك في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية"، والمعروف عنه الجشع والقسوة، فهو رجل يهودي كان يقرض الناس بالربا الفاحش، وذات يوم أقرض تاجر البندقية رجلا مبلغا من المال، فعجز الرجل عن السداد بسبب سعر الفائدة المبالغ فيه، وكان الاتفاق يسمح للمرابي باقتطاع جزء من لحم المقترض المتعثر، وفاءً لما عليه من ديون.

في الماضي كان المرابي يصطاد الفقراء والمحتاجين والذين يبحثون عن سيولة نقدية سريعة لشراء غذاء لهم ولأولادهم، أو بناء كوخ يحميهم من الأمطار، أو تجهيز أب بناته المقبلات على الزواج، كان المرابي يجري خلف المحتاجين بحثا عن رهائن ينمي أمواله من خلالهم وبسرعة وبدون أي مجهود. وقتها كان الناس يكرهون المرابين بشدة وينظرون إليهم باحتقار شديد.

وفي العصور الوسطى بأوروبا كان المجتمع ينظر إلى المرابين باحتقار لقيامهم بأعمال اقتصادية مشينة، وارتبطت جريمة الربا في ذلك العصر، بجرائم أخرى مثل تسميم الآبار والسحر وخطف الصبيان لأعمال الشعوذة.

وكان الربا محظورا على المسيحيين في تلك العصور، حيث حرّمته الكنيسة الكاثوليكية بشدة إلى درجة الوعيد بحرمان المرابين من أسرار الكنيسة والدفن في مقابر المسيحيين، وهناك دراسات تتحدث عن كيف ساهم المرابون اليهود في أوروبا في نشأة دولة الاحتلال الإسرائيلي.

حاليا، وفي ظل غلاء فاحش وقفزات في الأسعار وتدني الأجور واختفاء فرص العمل وزيادة الإيجارات والنفقات ومبالغة البنوك في القيود المتعلقة بمنح الائتمان، والمغالاة في طلب الضمانات، عادت مهنة المرابي في بعض الدول العربية خاصة تلك التي تعاني فيها الأغلبية من المواطنين من فقر مدقع وتضخم فاحش، ولكن في شكل جديد.

في ظل غلاء فاحش وتدني الأجور واختفاء فرص العمل وزيادة الإيجارات والنفقات ومبالغة البنوك، والمغالاة في طلب الضمانات، عادت مهنة المرابي

وأخذت المهنة أشكالا وأساليب براقة ما بين مؤسسات تمويل واقراض، ومكاتب ائتمان صغيرة، وشركات توظيف أموال وإدارة استثمار، ووكالات منح قروض للشركات الصغيرة ومتناهية الصغر، وأصبح الناس هم من يبحثون عن هذه المؤسسة أو الشخص الكريه لكي يقترضوا منه مبلغا من المال وبأسعار فائدة خيالية قد تعادل قيمة القرض وعلى فترة زمنية قصيرة قد لا تتجاوز العام.

بل إن بعض الناس يلجأون لهؤلاء المرابين الجدد لشراء أمور غير ضرورية، سيارة فارهة، فيلا في مكان راقي، وتعليم الأولاد في الخارج، أو السياحة والتنزه، أو شراء عضوية نادي كبير، أو إقامة حفل زفاف فاخر.

ولنا أن نتخيل بشاعة المرابين الذين باتوا يحصلون على سعر فائدة مبالغ فيه يصل إلى نحو ألف في المائة على أموالهم كما يحدث في بعض دول جنوب شرق آسيا الفقيرة.

الربا منبوذ اجتماعيا ومحرم في معظم الأديان السماوية، وينزع البركة من المال والرزق والأولاد، وأذكر وأنا صغير أن قريتي كان يوجد بها أحد المرابين المعروفين، وفي يوم من الأيام استفاقت القرية على خبر يقول إن الفئران أكلت المال الذي كان يكتنزه المرابي في بيته، وأن مرضا خطيرا أصاب واحد من أسرته ومات.

الربا لا يشكل فقط مصدر قلق للفرد أو لذوي الحاجة الملحة، بل وباء يصيب المجتمع بالفقر والقهر والذل، ويزيد الفجوات الاجتماعية، ويرفع منسوب القهر المجتمعي، وربما القتل والسرقة، ويتسبب في حدوث خلل بين أفراد المجتمع.

فالذي يقترض أموالا بتكلفة عالية لن يستطع سدادها في النهاية، وإذا حاول فإن مجهوده يذهب إلى المرابين، لا إلى سداد احتياجات أسرته، وسداد الالتزامات المستحقة، أو تنمية مدخراته وتأسيس مشروع إنتاجي، أو حتى شراء عقار أو أدوات استثمار أخرى، ببساطة هو يعمل لصالح الآخرين.

مطلوب من الجميع التحرك لمواجهة الظاهرة الخطيرة والأشكال الجديدة من الربا عبر إقرار تشريعات رادعة تحظر مثل هذه الممارسات اللأخلاقية

وقد يندفع المقترض نحو قتل المرابي انتقاما منه، أو قتل شخص ثري أخر للسطو على ماله وسداد ما عليه، وقد ينتهي الأمر بالمقترض إلى ظلمات السجون بسبب تعثره في السداد، وقبلها الغرق في وحل الديون.

مطلوب من الجميع التحرك لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة والأشكال الجديدة من الربا عبر إقرار تشريعات رادعة تحظر مثل هذه الممارسات اللأخلاقية التي بدأت تتسع مستغلة الضائقة المالية التي تعيشها ملايين الأسر، وفي نفس الوقت مطلوب توعية الأفراد بمخاطر التوسع في الاقتراض، خاصة إذا كان يمثل عبئا شديدا في المستقبل سواء على المقترض ذاته، أو أسرته وأحفاده.

المساهمون