يمثل قطاع الفوسفات عصب الاقتصاد التونسي والرئة التي تتنفس منها الدولة والمورد الأول في الميزانية، حيث احتل مكانة مهمة في المنظومة الاقتصادية، سواء على مستوى المداخيل من العملة الصعبة أو على مستوى الميزان التجاري، لكن منذ اندلاع ثورة 2011، عاش القطاع أحلك فتراته ودخل في دوامة ضعف كبير وانهيار في الإنتاج الذي انخفض إلى الثلثين، وهو ما انعكس سلبا على نشاط ومردودية كبرى المؤسسات ذات العلاقة كالمجمع الكيميائي وشركة فوسفات قفصة.
كما أثر سلبا على مؤسسات أخرى مرتبطة بالقطاع، إلى جانب انهيار أرقام التصدير وموارد الدولة وعجز الموازنات المالية للبلاد.
وفي الماضي القريب، احتلت صادرات الفوسفات التونسي المرتبة الثالثة على الصعيد العالمي، وكان يتم تصدير الفوسفات الطبيعي ومشتقاته إلى ما يناهز خمسين دولة عبر العالم بعد تطوير استعمالات جديدة لهذه المادة خاصة في مجال إنتاج الطاقة الحيوية والاستعمال المباشر للفوسفات الخام كبديل للأسمدة المذابة.
ومر القطاع بصعوبات حادة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تم تجاوزها وتحسين أداء مؤسستي القطاع بفضل التطهير وإعادة الهيكلة المالية وغلق المناجم الباطنية واعتماد خطة التقاعد المبكر وتوحيد الإدارة العامة والفريق التجاري وأعضاء مجلس الإدارة لكل من شركة فوسفات قفصة والمجمع الكيميائي التونسي.
وبفضل هذه الإجراءات تمكن القطاع من تحقيق نتائج قياسية على مستوى الإنتاج والأرباح، حيث تجاوز حجم الإنتاج السنوي للفوسفات سقف 8.3 ملايين طنّ مع تسجيل نتائج مالية لشركتي القطاع تفوق 2 مليار دينار آنذاك، علما أن عدد الموظفين بمؤسستي القطاع لم يكن يتجاوز 11 ألف موظف آنذاك.
2010 السنة الفاصلة
تمكّن قطاع الفوسفات ومشتقاته قبل الأزمة من تحقيق مداخيل سنوية ضخمة، متأتية بالأساس من مبيعات الفوسفات ومشتقاته (حامض فسفوري، ثنائي فوسفات الأمونيا، ثلاثي فوسفات الرفيع، الفوسفات العلفي) التي يتم تصدير القسط الأكبر منها بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولم يتجاوز معدل إنتاجها السنوي من الفوسفات خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2020 نحو 3.5 ملايين طنّ سنويا مقابل إنتاج 8.3 ملايين طنّ عام 2010؛ فيما تبلغ احتياطات تونس من الفوسفات 7 مليارات طنّ.
وبلغت نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الخام ما قدره 4% سنة 2008 ثم تقلصت إلى حدود 1.2% سنة 2011، ثم واصلت تراجعها في السنوات التالية.
اختلالات وضعف إدارة
تبدل الوضع الإيجابي إلى التدهور داخل مؤسستي القطاع خلال السنوات الأخيرة، حيث تعطلت أداة الإنتاج جراء عدة عوامل فنية واجتماعية أهمها: هشاشة الوضع الاجتماعي بمحيط مواقع الإنتاج وحدَة الضغط على المؤسستين عبر الاعتصامات وتعطيل الإنتاج والنقل الحديدي للفوسفات على امتداد تسع سنوات متتالية.
كما تم إثقال كاهل القطاع بأعداد هائلة من الانتدابات (مضاعفة عدد الأعوان (الموظفين) بكل من شركة فوسفات قفصة والمجمع الكيميائي التونسي) لتهدئة الأوضاع الاجتماعية، حيث انتُدب حوالي 6000 موظف زائدين عن الحاجة لدى المجمع الكيميائي التونسي، وحوالي 7000 موظف زائدين عن الحاجة لدى شركة فوسفات قفصة يتلقون أجرا دون مقابل، تحت عنوان شركات البيئة والغراسة.
كما تم إدماج حوالي 1600 عون تابعين لشركة نقل المواد الفوسفاتية، في حين أن هذه الشركة أصبحت عاجزة عن القيام بدورها لنقل الفوسفات بسبب اهتراء وسائل النقل.
وحسب مراقبين، ارتفعت كلفة نقل الفوسفات إلى وحدات المجمع الكيميائي التونسي، بسبب الإفراط في اللجوء إلى مناولة النقل بالشاحنات أمام تراجع النقل الحديدي. كل ذلك أدى إلى تراجع حضور المنتج التونسي في الأسواق العالمية، وخسارة أسواق وحرفاء تقليديين.
تعطيل متعمد
ومباشرة بعد ثورة 2011، تراجع القطاع وانهار بسبب تنامي التحركات الاجتماعية والاعتصامات، إضافة إلى سعي بعض الأطراف إلى تعمد تعطيل الإنتاج لتحقيق مصالحها الضيقة على حساب ثروات الفوسفات التي تغذي الدولة بموارد مالية مهمة.
وواقع الفوسفات الصعب، تترجمه الأرقام الأخيرة الصادرة أخيراً، عن شركة فوسفات قفصة والتي كشفت أن إنتاجها من الفوسفات التجاري، منذ غرّة يناير/ كانون الثاني وإلى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بلغ مليونين و700 ألف طنّ فقط، وهو إنتاج ضعيف جدا لم يبلغ الهدف المنشود الذي كانت الشركة حددته للفترة ذاتها ويتمثل في تحقيق إنتاج يساوي 3 ملايين و400 ألف طنّ، أي بفارق سلبي بلغت نسبته 23 بالمائة.
ضعف الإنتاج مرده إلى تواصل الإضراب واستمرار توقّف الإنتاج بشكل شبه كامل منذ عام، ما حرم الشركة في الأشهر العشرة الأولى من السنة من تقوية طاقة إنتاجها بما لا يقلّ عن 400 ألف طنّ من الفوسفات التجاري بعد اقتصارها على مناجم المتلوي والمظيلة وأم العرائس والتي شهدت بدورها اضطرابات عطلت الإنتاج وقلصت من المردودية، حيث شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2021 وقف كلّ أنشطة إنتاج وتصدير الفوسفات بتلك المناطق في ظل احتجاجات طالبي الشغل.
ومن المُتوقّع في هذا السياق، ألّا يتجاوز إنتاج الفوسفات التجاري مع نهاية هذه السنة 3.7 ملايين طنّ، وهو تقريبا نفس معدّل إنتاج العشرية الأخيرة، التي عرفت تراجعا حادّا وتقهقرا لافتا لقطاع الفوسفات في تونس، مقابل 8.3 ملايين طنّ سنة 2010 وهي التي تعد سنة المرجع والسنة السابقة للثورة.
ولم يكن الفساد بعيداً عن عرقلة هذا القطاع الحيوي، إذ أوقفت السلطات التونسية، في شهر أغسطس/ آب الماضي، 14 مسؤولا وأدرجت 3 آخرين في قائمة البحث (الطلب) للقبض عليهم، بينهم وزير صناعة سابق وذلك بشبهة فساد مالي وإداري في قطاع الفوسفات.
وفي 2 أغسطس/آب الماضي، توعد الرئيس التونسي قيس سعيد، أطرافا متورطة (لم يسمها) في تعطيل إنتاج ونقل الفوسفات.
تهاوي الصادرات وتوقف الإنتاج
ضعف الإنتاج أثر على عائدات الصادرات في كامل العشرية الأخيرة حيث سجلت تراجعا كبيرا. وحسب بيانات سابقة للبنك المركزي، فإن تراجع إنتاج الفوسفات كلف الدولة التونسية 6.7 مليارات دولار على مدى 6 أعوام من 2014 إلى 2020.
وتأمل تونس ببلوغ إنتاج 16 مليون طنّ في أفق 2030 وفق المشروع السنوي للقدرة على الأداء لوزارة الصناعة والطاقة والمناجم، إذ يتوقع أن لهذا الارتفاع أثرا إيجابيا في حصة تونس في السوق العالمية التي تعمل على أن ترتفع من 4.5% إلى 5.3%.
وحول توقّف أنشطة إنتاج الفوسفات وبيعه لمُصنّعي الأسمدة الكيميائية وتأثيرات ذلك، قال مدير إقليم شركة فوسفات قفصة بالرديف، محمد غامدو، لـ"العربي الجديد"، إن نشاط إنتاج الفوسفات التجاري بمغسلة الرديف متوقّف تماما منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 2020، علما بأنّ الرّديف تتوفّر حاليا على مخزون مهم من الفوسفات التجاري الجاهز للتصدير والذي لا يقلّ حجمه عن مليون و500 ألف طنّ.
وأضاف غامدو أن توقّف نشاط وحدة إنتاج الفوسفات التجاري بالرديف قد حرم شركة فوسفات قفصة من تقوية طاقة إنتاجها بما لا يقلّ عن 400 ألف طنّ من الفوسفات التجاري، في وقت تسعى الشركة إلى استرجاع نسق إنتاج الفوسفات التجاري وتدارك التراجع الحادّ في حجم إنتاجها، جرّاء الاضطرابات الاجتماعية واحتجاجات طالبي الشغل بالجهة.
كما توقّفت شركة فوسفات قفصة بسبب استمرار هذا الحراك الاحتجاجي بالرديف منذ شهر سبتمبر/ أيلول 2020، عن شحن مخزونها من الفوسفات التجاري المُقدّر بنحو مليون و500 ألف طنّ.
خسارة الأسواق
ويكتسي تسويق هذا المخزون حسب مسؤولين بشركة فوسفات قفصة، أهمّية بالغة من ناحية دعم قدرة الشركة في تلبية حاجيات الحرفاء من هذه المادّة، من جهة، ومن ناحية الإسهام في حلّ الإشكاليات المالية الراهنة التي يواجهها قطاع الفوسفات ومُشتقّاته، من جهة أخرى.
ويأتي ذلك، باعتبار تنامي الطلب في السوق العالمية على الفوسفات والأسمدة الكيميائية في الوقت الذي ارتفع فيه سعر الفوسفات حسب البنك الدولي في شهر أغسطس/ آب 2021 بـ 9.5 % ليصل إلى 136.88 دولارا للطنّ مقابل 125 دولارا في شهر يوليو/ تموز الماضي.
وأمام الارتفاع السكاني في العالم الذي ينتظر أن يبلغ 9 مليارات نسمة في 2050 وتقلص مخزون الفوسفات الذي تجمع الدراسات على أنه لا يكفي إلا 90 سنة، فقد بات الفوسفات محل دراسات استراتيجية معلنة وغير معلنة من القوى الكبرى وبدأت تتحرك بشكل واضح على أرض الواقع.
وتشير بعض الدراسات إلى أن أسعار الفوسفات مرشحة للارتفاع بين 500 و1000% في العقود القادمة.
فقدان تونس لأسواقها استغلته دولة المغرب كما يجب، حيث مثل الفوسفات المغربي بديلا لنظيره التونسي. وقد تمكنت الرباط في العشرية الأخيرة من تطوير صناعاتها الكيميائية وطاقتها الإنتاجية داخل وخارج المغرب مع التركيز على أفريقيا.
وفي السنوات الأخيرة وبالوقت الذي تراجعت فيه تونس إلى مستويات ضعيفة تمكن المغرب من مضاعفة إنتاجه ثلاث مرات وأبرمت الجزائر عقودا مهمة مع الصين لإنتاج 10 ملايين طنّ وينتظر أن تحتل المرتبة الثالثة عالميا.
وقامت إندونيسيا الحليف الاستراتيجي لتونس سابقا على مدى عقود بإبرام اتفاقات والدخول في صناعة الفوسفات مع السنغال في حين أن الصين وإسرائيل قامتا بضخ استثمارات مهمة في توغو.
ونظرًا للمعطيات والتحالفات الجديدة ودخول القوى الكبرى على الخط، فإن محاولة تونس الرجوع لما كانت عليه منذ حوالي 10 سنوات بات أمرا صعب المنال، باعتبار الكلفة وتقادم التجهيزات، إذ يتطلب ذلك إمكانيات ضخمة وبضع سنوات في ظل تحالف الأسواق الكبرى التقليدية لتونس مع منتجين جدد للفوسفات.
خروج من المنافسة العالمية
وبعدما كانت المنافسة بين تونس والمغرب في الفوسفات طيلة عقود وحتى عام 2010، تحولت المنافسة اليوم بين معادن السعودية والمكتب الشريف للفوسفات المغربي.
فمعادن السعودية تمكنت من الصعود للمركز الثالث عالميا في سنوات قليلة بإنتاج 11 مليون طنّ من الخام و6 ملايين طنّ من الأسمدة، وتتجه للصعود إلى المركز الثاني عالميا بعد برمجتها إضافة 3 ملايين طنّ من الأسمدة ما يجعلها تنتج أكثر من 16 مليون طنّ من الخام سنوياً.
وتمكنت معادن من التواجد في 30 دولة خاصة في آسيا وأفريقيا الشرقية والجنوبية، وفِي بداية سنة 2020 قام المكتب الشريف للفوسفات بإحداث شركة في رومانيا مناصفة مع شركة الظاهرة الإماراتية لتعزيز تواجده في أوروبا الوسطى والشرقية بالاعتماد على شبكة التوزيع التي تتمتع بها الشركة الإماراتية في رومانيا والدول المجاورة.
وحسب مراقبين، تبدل الواقع على الأرض في ميدان الفوسفات الإقليمي والعالمي ببروز معادن للفوسفات السعودي بكميات ضخمة وطرق عصرية في التصرف، ما يجعلها تتجه للمركز الثاني عالميا إلى جانب المكتب الشريف للفوسفات المغربي الذي شهد تطورا كبيرا في العشرية الحالية، كما أن المنافسة التقليدية بين تونس والمغرب لم تعد تجدي.