استمع إلى الملخص
- **الأسباب المالية وتأثيرها على التعليم:** يُعزى التقليص إلى الضغط المالي، حيث انخفض الإنفاق على التعليم من 8.8% إلى 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يقلل من فرص الفئات الفقيرة في التعليم.
- **التحديات المستقبلية والبدائل المقترحة:** تقرير البنك الدولي أشار إلى عجز في أعداد المعلمين والفصول، مع توقع استمرار هذا العجز، مما يؤدي إلى تدهور جودة التعليم وتراجع ترتيب مصر عالميًا.
أثار إعلان وزارة التعليم المصرية، الأيام الماضية، إلغاء مواد الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية ودمج المواد العلمية، مع تقليص المحتوى الدراسي عموماً بالمرحلتين الإعدادية والثانوية العامة، جدلاً مُجتمعياً كبيراً بشأن منطق ورؤية الحكومة المصرية لمستقبل البلد، في عصر تزداد فيه أهمية رأس المال البشري، وتتعمّق قناعة الإنسانية بأهمية الوعي الإنساني والاجتماعي العام، إلى جانب المعرفة المادية والتقنية المتخصصة، في ضمان تطوّر المجتمعات والارتقاء بحياتها في عصر يطرق أبواب الذكاء الاصطناعي.
ومع كثرة التفسيرات المُتداولة حول دوافع مثل هذه القرارات، يبرز الضغط المالي والرغبة بتقليص النفقات بوضوح كبير، باعتباره السبب الأساسي المباشر في هذا التقليص غير الحصيف للمحتوى التعليمي في بلد يشكو أساساً من ضعف مستوى التعليم، والحاجة لمزيد من الارتقاء به كمّاً وكيفاً، بينما تشير اتجاهات السياسات العامة إلى خِلاف ذلك بالضبط، كما يتجلّى بوضوح صارخ في انخفاض نسبة الإنفاق على التعليم من 8.8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2002 إلى 1.9% فقط منه عام 2023/2024 الجاري، والذي انخفض كذلك، على النطاق الأضيق بما يثبت استمرار الاتجاه وتزايده، كنسبة من الإنفاق العام من 9.3% إلى 7.7% منه، بنسبة 17% دفعة واحدة، خلال العام الأخير فقط، ما بين العامين الماليين 2023/2022 و2024/2023.
هذه اتجاهات تعكس استراتيجية ثابتة لتقليص التعليم العام والحكومي، والاعتماد المتزايد على التعليم الخاص؛ بما يعنيه ذلك من انخفاض فرص الفئات الأشد فقراً حتى في التعليم الأساسي، ناهيك عن التعليم الأعلى من ذلك وصولاً إلى الجامعي وما بعده؛ بما يمثّله من خسارة مُزدوجة فردياً وجماعياً.
والواقع أنه ليس من قبيل الصدفة توافق تلك الاستراتيجية مع برامج صندوق النقد الدولي التي أدمنتها الحكومة المصرية طوال العقد الأخير خصوصاً، بما تتطلبه من خفض الإنفاق الاجتماعي، وتوجيه الموازنة العامة لسداد التزامات الدائنين، فضلاً عن مُشتملاتها الأوسع نطاقاً، من الدفع للاعتماد المتزايد على قواعد السوق الحرة، ومبادرة القطاع الخاص في توفير جميع السلع والخدمات، الأمر الذي لا ينجح تقليدياً في بعض القطاعات، وعلى رأسها السلع شبه العامة، كالتعليم والصحة، المشهورة كحالات رئيسية لفشل السوق، تستوجب التدخل والدعم الحكومي، باعتراف نظري من الأكاديمية الليبرالية الرسمية نفسها، وبموافقة عملية بالممارسات الحكومية في أعتى الرأسماليات التقليدية.
الأزمة المالية والاستهداف الحتمي للمجانية في آخر إصدار من تقرير "مرصد الاقتصاد المصري"، الذي يصدر عن البنك الدولي، في ديسمبر/كانون الأول 2022، ناقش التقرير قضية التعليم في مصر من المنظور المالي بشكل خاص، فبدأ بالإشارة إلى العجز في أعداد المعلمين بما يتجاوز 320 ألف معلم؛ بسبب وقف التعيينات منذ فترة طويلة، بينما يزداد عدد طلاب المرحلة الابتدائية بشكل مستمر؛ ما دفع الحكومة إلى الاستعانة بمعلمين بعقود مؤقتة، بل وما لم يذكره التقرير، إعلانها عن عقود تطوّعية كلياً دون أي مقابل على الإطلاق!
ويتوقّع التقرير استمرار زيادة ذلك العجز، ومعه العجز في أعداد الفصول الدراسية، في ظل افتراض متحفّظ باستمرار متوسط زيادة عدد الطلاب الحالي على مستواه حتى عام 2026، واضعاً ثلاثة سيناريوهات للتعليم الابتدائي تتراوح ما بين (1) عدم اتخاذ أي إجراء؛ وبالتالي تدهور الوضع بزيادة نسبة كثافة الطلاب للفصل الواحد من 56 إلى 65 طالباً في الفصل، أو (2) إبقاء الوضع على ما هو عليه؛ مما يتطلب بناء 50 ألف فصل خلال الفترة، أو (3) الالتزام ببرنامج الإصلاح المُستهدف الذي يخفض نسبة الطلاب إلى المدرسين والفصول بمقدار 20%، من 56 إلى 45 طالباً، مُتغاضياً عن أي احتمالية لسيناريو رابع لخفض تلك النسب إلى ما يقترب من النظراء الدوليين، والذي يستلزم إضافة 120 ألف فصل دراسي و200 ألف مدرس خلال الخمس سنوات المُقبلة.
ولا ترجّح الاتجاهات المالية الحالية سوى السيناريو الأول، السلبي كلياً؛ فعلى ما سلف ذكره، هناك اتجاه عام لخفض الإنفاق الحقيقي على التعليم، وضعف استجابة المُخصصات المالية للنمو السكاني طوال السنوات السابقة، وعلى ما سجّل التقرير انخفض الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 2.8% إلى 1.7% بين عامي 2015 و2020، علماً بأن الإنفاق على التعليم في مصر ينخفض بما يتراوح ما بين 1 و3 نقاط عن نظيره لمُجمل المجموعات الإقليمية ومجموعة البلدان عالية الأداء، بل وأقل بالمقارنة بأغلب بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى مستوى أكثر ميكروية، انخفض إجمالي عدد المدرسين بمختلف مراحل التعليم الحكومي ما قبل الجامعي من 923 ألف مدرس عام 2020 إلى حوالي 809 ألف مدرس عام 2024 الجاري، بانخفاض إجمالي أكثر من 12% خلال أقل من أربعة أعوام، حسب كتاب الإحصاء السنوي لوزارة التربية والتعليم المصرية لعام 2023/2024.
وما يزيد الطين بلة، أنه بالإضافة إلى ذلك الإنفاق التعليمي المُنخفض، والمستمر بالتراجع، فإنه لا يُستخدم كذلك بالكفاءة الواجبة، فيشير تقرير مرصد الاقتصاد المصري سالف الذكر إلى الآثار السلبية للمركزية المالية، ولإعداد موازنة منفصلة للإنفاق الرأسمالي مقابل موازنة الإنفاق المتكرر، من جهة ضعف الاستجابة لزيادة عدد الطلاب، وازدحام المدارس، حيث ترجع مسئولية الموازنة الأولى إلى وزارتي التخطيط والمالية؛ فلا يتسق الجدول الزمني لقرارات الموازنتين بشكل جيد، كما تتباطأ الاستجابة لحاجات الصيانة التي تتولّاها هيئة الأبنية التعليمية بشكل مركزي.
ويبدو أن الحكومة المصرية قد ارتأت، كعادتها، أن الحل المُبتكر والإبداعي لهذا التناقض المُتزايد ما بين متطلبات النظام التعليمي المُتزايدة والموارد المالية المتراجعة، هو أن تقلّص المحتوى التعليمي نفسه، كجزء من الاستراتيجية الملتوية للإلغاء العملي التدريجي لمجانية التعليم التي تمضي فيها قُدماً منذ سنوات على الأقل. وهكذا لا تلجأ حكومتنا أبداً لأول الحلول المنطقية لمشكلات ارتفاع التكاليف أو قصور الموارد المالية، وهو مراجعة مدى كفاءة إدارتها للأمور، وتقليص أوجه الإهدار والفساد وضعف الإنتاجية، بل حلها الأسهل دوماً هو رفع الأسعار والرسوم على المواطن من جهة، كما فعلت بدعم الخبز وبأسعار الكهرباء والمياه وتذاكر الميترو وما شابه، أو تقليص وخفض كمّ وكيف السلعة أو الخدمة المُقدّمة من جهة أخرى، كما تفعل بخدمات التعليم والصحة وصيانة المرافق العامة والحبل على الجرار.
التضحية بالتعليم إهدار للمستقبل لا يمكن فصل رؤية أي حكومة للتعليم عن تصوّرها الكامل لمستقبل البلد الذي تديره؛ فالتعليم لا يتعلّق فقط بتأهيل خريجين لسوق العمل لتدوير عجلة الإنتاج المُقدسة لدى البروباغندا الحكومية المصرية، بل هو بناء وصياغة لتكوين الإنسان والمجتمع المعنيين، واستهداف لشكل وموقع البلد من العالم. فالبلد الهادف للوجود الكريم المستقل، أو بصيغة علمية أكثر تحديداً، الهادف لاحتلال موقع أكثر تقدماً وإنتاجية ومركزية بتقسيم العمل الدولي ونظام القيم العالمي، بدلاً من الهوامش الطَرفية المتخصصة في القطاعات الاستخراجية والمنتجات الأوّلية والصناعات المنبوذة الملوّثة للبيئة، وما شابه من مجالات يغلب عليها انخفاض المحتوى التقني والقيمة المُضافة، بلد كهذا سيسعى حتماً لتأصيل قيم العلم والمعرفة بصفتها جزءاً من تكوين رأسماله البشري الذي لا يقلّ أهمية، إن لم يزد، عن رأس المال المادي، ناهيك عن الطُرق والجسور بالطبع.
لا عجب، وعلى سبيل المخالفة الدالة، أن صدر في الولايات المتحدة الأميركية عام 1983 تقرير "أمة في خطر" الشهير، الذي تحدّث عن مخاطر تراجع مستوى التعليم الأميركي بالمُقارنة بالدول المتقدمة الأخرى، مُشيراً بشكل خاص إلى ضعف مستوى طلاب المرحلة الثانوية بالعلوم والرياضيات والكتابة والإنشاء، فضلاً عن ضعف مهارات التفكير من تحليل ونقد، وانخفاض اهتمام الطلاب بتعلّم الرياضيات واللغات الأجنبية، بل وصف التقرير ذلك الأداء التعليمي المتوسط، بأنه لو كان، جدلاً، مفروضاً بإرادة خارجية؛ لاعتُبر حرباً على البلد!
وقد شملت توصيات التقرير ضرورة الاهتمام بالمواد السابقة، فضلاً عن العلوم الاجتماعية والحاسب الآلي، مع زيادة أيام الدراسة السنوية من 180 إلى 240 يوماً بالسنة، وزيادة طول اليوم الدراسي نفسه، ولم ينس الإشارة الصارمة إلى ضرورة تحسين أوضاع المدرّسين مادياً ومعنوياً، والتنفيذ الفوري للإصلاحات في بحر ثلاثة أعوام فقط.
هذه الجدّية في التعاطي مع المشكلة ليست شيئاً من قبيل الصدفة، بل تعكس توجهاً كاملاً لبلد يرى نفسه، ولا يقبل سوى أن يبقى، في صدارة العالم وعلى رأسه، في قلب ومركز العمليات الإنتاجية المتقدمة وإنتاج القيم النوعية؛ لهذا يهتم بالتعليم ويدرك أهمية الاستثمار بالإنسان، ومدى ارتفاع مردوديته المستقبلية؛ لهذا أنفقت الولايات المتحدة، حتى بعد ضغوط فترة اليمين الترامبي، 12.7% من إنفاقها الحكومي على التعليم العام عام 2020، وما يُعادل 5.4% من ناتجها المحلي الإجمالي، الهائل، عام 2022 (حسب بيانات البنك الدولي)، رغم توجهّاتها الرأسمالية الصِرفة والمتشددة حتى بمعايير المراكز عريقة وعميقة التقليد الرأسمالي.
في المقابل، يعكس الإهمال المتزايد للتعليم بمصر، اتساقاً مع باقي المواقف بالسياسة الخارجية وخِلافه، رؤية الحكومة المصرية لمصر كبلد طَرفي هامشي، لا يطمح إلى أكثر من فُتات السياحة والخدمات اللوجستية، وبعض الصناعات البدائية التي تجاوزها التطوّر العالمي كالغزل والنسيج، واستخراج المعادن، وما شابه، فضلاً عن الصناعات الرديئة الملوّثة للبيئة المنبوذة من العالم المتقدم كالإسمنت والسيراميك وغيره؛ حفاظاً على صحة الإنسان الأبيض مرتفع القيمة، على حساب صحة إنسان العالم الثالث منخفض القيمة، وليس في ذلك القول أي مُبالغة أو تزيّد من طرفنا، بل كان الحُجة النهائية -المُصاغَة بلباقة أكثر بالطبع- لدراسة لأحد خبراء البنك الدولي.
لا عجب في عدم اتخاذها أي إجراءات جدّية في مواجهة الواقع المأساوي لتدهور التعليم في مصر، المُنعكس في تراجع ترتيبها على مؤشرات جودة التعليم العالمية، كاحتلالها المرتبة الـ120 من 177 دولة على مؤشر التعليم عام 2022 (حسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة)، والمرتبة 90 من 133 دولة على مؤشر المعرفة العالمي GKI لعام 2023، بل واحتفاظها المُؤسف حتى عام 2022 بأحد أعلى نسب الأميّة الأبجدية في العالم، بنسبة 25% من شعبها.
وتوافقاً مع ذلك التصوّر متواضع الطموح للموقع العالمي، يتسق هذا الإهمال، من زاوية الأولويات الداخلية، مع كامل منطق السلطة المُؤمن بأولوية الاستقرار السياسي (بأكثر الأوصاف حياداً ودبلوماسية) على كل ما عداه من قواعد اجتماعية ومؤسسية لبناء وتقدّم الدول والمجتمعات الحديثة، والذي يصبح ضمنه التعليم الجيد القادر على تنمية ملكات التحليل والعقل النقدي، مجلبة للصداع والمُعارضة، وخطراً على الأمن والاستقرار بذلك المعنى البائس، وكما قال الساخر الأميركي الشهير جورج كارلين: "لا تُريد الحكومات أناساً قادرين علي التحليل والتفكير النقدي، بل مجرد عمّال مطيعين، أذكياء بما يكفي لتشغيل الماكينات، لكن أغبياء بما يكفي أيضاً ليتقبلوا واقعهم" دون تفكير.