شهادتا التأمين والإيداع تعيقان تشغيل خط الغاز الروسي "نورد ستريم 2" رغم إنجازه... فما الحكاية؟
أعلنت شركة "غازبروم" الروسية 10 سبتمبر/أيلول اكتمال بناء "خط غاز السيل الشمالي 2" (نورد ستريم 2) بنسبة 100%، ولكن قبل نقل الغاز الروسي إلى ألمانيا قبل نهاية العام الجاري، لا بد من أن يحصل على شهادتي التأمين والاعتماد، وهو الأمر الذي صعبته العقوبات الأميركية التي قلصت إمداد المشروع بهذه الخدمات.
وتكتنف هذا المشروع مصالح اقتصادية وجيوسياسية متقاطعة للقوى الكبرى: ألمانيا التي تعتمد عليه في برنامجها للتحول نحو الطاقة المتجددة، والولايات المتحدة التي ترى فيه تبعية لخصمها روسيا من قبل حليفتها ألمانيا، وهناك أوكرانيا المتضررة من احتمالية التفاف موسكو واستغلالها للخط سياسياً، وأخيراً إيطاليا التي من الممكن أن يشكل نورد ستريم منافساً قوياً لخط (تاب) الذي يمدها بجانب كبير من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من أذربيجان.
خط غاز السيل الشمالي 2" (نورد ستريم 2) وتسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني ما زالا يمثلان سبباً لإجراءات عقابية من قبل الولايات المتحدة (والمملكة المتحدة) حيال موسكو
وذكر مكتب "بادوفان" الإيطالي للاستشارات القانونية، المتخصص في العقوبات الاقتصادية الدولية، في تقرير نشره بتاريخ 28 أغسطس/ أب الماضي أن "خط غاز السيل الشمالي 2" (نورد ستريم 2) وتسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني ما زالا يمثلان سبباً لإجراءات عقابية من قبل الولايات المتحدة (والمملكة المتحدة) حيال موسكو. وعلى الرغم من اتفاق التهدئة الذي تم التوصل إليه منذ شهر تقريباً بين برلين وواشنطن بشأن "نورد ستريم 2"، فها هي عملية استكمال خط الغاز تعود أدراجها لتكون مادة لجولة عقوبات أميركية جديدة.
عقوبات أميركية جديدة
وتابع التقرير أنه علاوة على العقوبات التي أقرتها الإدارة الأميركية الجديدة، عبر قانون حماية أمن الطاقة لأوروبا (PEESA) الذي فرض مزيداً من العقوبات ضد كيانات وسفن تابعة لنورد ستريم، أصدر الرئيس بايدن يوم 20 أغسطس/أب الماضي قراراً تنفيذياً جديداً بحجب ملكية كيانات وأفراد مرتبطين بخطوط تصدير الطاقة الروسية، ومن بينهم 9 أفراد و6 شركات و13 سفينة.
وخلص التقرير إلى أنه على الرغم من أنها لا تمثل تعديلاً على إطار العقوبات الأميركية القائمة ضد روسيا، فإن الإجراءات العقابية الجديدة تبدو كأنها إشارة إلى رغبة واشنطن عدم خفض درجة الحذر حيال خصمها الجيوسياسي، من خلال توجيه ضربة لرموز وبنى تحتية محورية تابعة لأجهزة الاستخبارات والأمن الروسية.
وفي سياق متصل، ذكر بيير لويجي مينّيتّي، رئيس تحرير مجلة "ستارت ماغازين" في مقال نُشر بتاريخ 29 أغسطس/آب الماضي وحمل عنوان "ماذا يحدث بشأن نورد ستريم 2 بين ألمانيا وروسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة" أنه غداة الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس الأميركي جو بايدن والذي فتح بموجبه، افتراضياً، محابس ازدواج خط الغاز الذي يربط روسيا بألمانيا بشكل مباشر، بدأ عملاق الطاقة الروسي "غازبروم"، مالك خط غاز نورد ستريم، في استعراض عضلاته معلناً أنه سوف يضخ عبر هذا الخط الجديد بنهاية العام الجاري 5.6 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، على الرغم من عدم تحديد موعد دقيق حتى الآن لبدء تشغيل الخط.
وتابع مينّيتّي أنه بينما تكرس الشركات جهودها حالياً من أجل تشغيل نورد ستريم 2، نجد أن ثمة لاعبين آخرين ماضون في تحريك بيادق لا يكاد يُرجى منها نفع. الحديث هنا عن الحكومة الأميركية، التي لا يبدو أنها تشهد فترة سارة حالياً، إذ أعلن وزير خارجيتها بلينكن أمام الكونغرس عن عقوبات جديدة تطاول كيانات وأفراداً لم يسمهم مرتبطين بخط الغاز البلطيقي، مشدداً على أن هذه الإجراءات الجديدة تأتي في إطار المعارضة الدائمة للولايات المتحدة لـ"نورد ستريم 2" الذي "سوف ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر الالتفاف على أوكرانيا".
أبعاد سياسية
وعلى الرغم من أن لقاء بايدن- ميركل نهاية يوليو/تموز الماضي كان قد أغلق في واقع الأمر هذا الملف، فإنه من الواضح أن واشنطن بحاجة إلى الإبقاء على حالة التوتر المتعلقة بخط غاز "نورد ستريم"، أيضاً بشكل رمزي، وربما كان وراء ذلك توازنات سياسية داخلية (الجمهوريون ثائرون حيال ما آلت إليه الأمور بذات الخصوص).
ورأى الكاتب الإيطالي أن ضغوط بلينكن تشير إلى أن الولايات المتحدة ما زالت تعتبر أن خط "نورد ستريم" 2 خطأ من شأنه زيادة اعتماد ألمانيا على روسيا في قطاع الطاقة، وتزويد بوتين بسلاح فتاك يمكّنه من ابتزاز أوكرانيا.
هنا ألمانيا
وأضاف أن الجدل بشأن "نورد ستريم 2" لم ينقطع أيضاً في ألمانيا، فبينما بدأت الحكومة وعالم المال والأعمال في إطلاق تنهيدة ارتياح إزاء مشروع استراتيجي على صعيد أمن الطاقة، أثارت الصحافة الألمانية شكوكاً حول توجهات السياسة الخارجية للبلاد وعلى التداعيات المنتظرة على المدى المتوسط والطويل.
في هذا الإطار، رفضت محكمة استئناف دوسلدورف الدعوى المرفوعة من شركة "نورد ستريم 2 إيه جي" ضد قواعد الاتحاد الأوروبي لسوق الطاقة المفروضة من أجل تمرير المشروع، وقالت إن خط الغاز سوف تسري عليه جميع القواعد، ومن بينها أن عمليات إدارة خط طاقة أو إنتاج أو نقل لا ينبغي أن تظل بأيدي الشركة ذاتها، كما أن عمليات التوظيف لابد أن تكون منفتحة على أطراف أخرى.
... وهنا أوكرانيا
وأوضح مينيتي أنه على الرغم من الضمانات التي قدمتها المستشارة الألمانية ميركل للرئيس الأوكراني زيلينسكي بشأن حماية بلاده من احتمال الاستغلال السياسي من قبل موسكو لـ"نورد ستريم 2"، فإن كييف لم تعد تثق في برلين كما أنها لم تثق قط في روسيا. وهكذا فإن القيادة الأوكرانية تتطلع الآن نحو وارسو، وعلى الرغم من أنه لا يحظى بثقل قوي، فإنه من المتوقع أن يكون التكتل البولندي-الأوكراني أكثر استقراراً، ومن شأنه أن يشكل ثقلاً موازناً للمحور الفرنسي – الألماني ويتسبب في بعض المشكلات للحلفاء سواء في الاتحاد الأوروبي أو الناتو.
ونقل عن صحيفة "دي فيلت" الألمانية قولها إن كل ما أشاعته برلين عن مشروع اقتصادي بحت، ما هو إلا خطة سياسية تضع من خلالها سلاحاً بيد روسيا لاستغلاله في وسط أوروبا، مشيرة إلى أن تمثيل وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير لبلاده في القمة الخاصة بشبه جزيرة القرم كان الهدف الحقيقي منه بحث خطة المساعدات الاقتصادية الألمانية مع الأوكرانيين، وبإشراف الولايات المتحدة، وهي الخطة التي دفعت ألمانيا من خلالها ثمن الضوء الأخضر الأميركي لاستكمال خط "نورد ستريم 2".
وختم بقوله إن برلين سوف يتعين عليها تمويل خطة تحول الطاقة في كييف نحو المصادر المتجددة، من أجل حمايتها من أي ابتزاز من قبل موسكو. ومن المتوقع أن تتحول المفاوضات بين ألمانيا وأوكرانيا إلى مصدر جديد للصراعات عندما تنتقل الأمور من الوعود الكبرى إلى التنفيذ على أرض الواقع.
منافسة إيطالية
وحول العوائد الاقتصادية لخط الغاز، أوضحت صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية في تقرير نُشر بتاريخ 23 أغسطس/أب الماضي، أنه ضمن لألمانيا ما يلزمها من غاز طبيعي من أجل برنامجها الخاص بتحول الطاقة، بالنظر إلى خروجها من الطاقة النووية ومن الكربون انتظاراً للطاقة المتجددة. ولم يكن على سبيل المصادفة أن تهبط أسعار مشتقات النفط بنسبة 10% عند إعلان الاستكمال الوشيك للخط، على الرغم من وصول الأسعار في أوروبا حالياً إلى مستويات مرتفعة غير مسبوقة.
ورأت الصحيفة أنه من الوارد أن يدخل خط الغاز الألماني في منافسة مع الخط الإيطالي، خط الغاز العابر للأدرياتيك تاب، الذي ينطلق من أذربيجان ليحط رحاله في مدينة سالينتو الإيطالية بطاقة 10 مليارات متر مكعب سنوياً، والذي من الممكن أن يصبح خطاً مزدوجاً قريباً. هذا الخط يوسع نطاق إمدادات الغاز التي توجهها إيطاليا للسوق المحلي بنحو 70- 75 مليار متر مكعب سنوياً.
ويرى بعض المحللين، بحسب الصحيفة، أن ثمة فضاء متاحاً لكلا الخطين، وذلك نظراً لأن كميات الغاز المستخرجة من بحر الشمال قليلة، في حين أن هولندا قررت تقديم موعد تنفيذ برنامجها للتحول نحو الاقتصاد الأخضر.
وأخيراً، فإن ثمة محللين آخرين يتطلعون بتفاؤل إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما يكون من الممكن استخدام خطوط أنابيب الغاز أيضاً في نقل الهيدروجين.
وفي حديث خاص لمجلة "فورميكي" بتاريخ 9 سبتمبر/أيلول الجاري حول دور مجموعة غاز بروم الروسية في تدفقات الغاز الطبيعي لألمانيا عبر (نورد ستريم 2)، صرح خبير الطاقة الإيطالي البارز ماسّيمو نيكولاتزي، كبير المستشارين بمعهد دراسات السياسة الدولية بميلانو، أن "غازبروم" أعلنت أن افتتاح خط غاز "نورد ستريم" لن يؤدي إلى زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي لأوروبا، مقارنة بالمعدلات الحالية، ومع ذلك فقد كانت ثمة قفزة.
وأوضح نيكولاتزي أنه في ظل سوق في طريقه الآن ليصبح قصيراً بشكل ملحوظ، فإمَا أن تكون غازبروم تتخلص حالياً من آثار الصيانة الطارئة للخط، أو أنها، وهذا ما أعتبره مدعاة أكبر للقلق، قد قررت أنها تستطيع في هذه الظروف حماية الأسعار أكثر من حماية حجم صادراتها، وتسهم بالتالي، من دون توسيع نطاق العرض، في الاحتفاظ بأسعار البيع المرتفعة بدلاً من اقتناص حصة أكبر في السوق.