يركز الخطاب الإعلامي للحكومة المصرية على أنها على الطريق الصحيح، في ما يخص الجانب الاقتصادي، وأنها حققت إنجازات غير مسبوقة، وأن ما يمر به الاقتصاد المصري من أزمات، إنما هو نتيجة عوامل خارجية، تتعلق بأزمتي جائحة فيروس كورونا والتداعيات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا.
بينما الواقع أن مشكلات مصر الاقتصادية تزداد تعقيدًا، سواء من حيث تزايد الدين العام المستمر، أو تراجع قيمة العملة المحلية، أو استمرار حالة الركود للقطاع الخاص غير النفطي، أو مشكلات المنتجين المتعلقة بعجزهم عن توفير احتياجاتهم من مستلزمات الإنتاج من الخارج.
ويظهر عمق تلك الأزمات الاقتصادية في مردودها الاجتماعي، حيث ارتفعت معدلات التضخم، مما أدى لزيادة أعباء المعيشة على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وثمة توقعات بأن تزداد رقعة الفقر بمصر، لتتجاوز المعدلات المعلنة من قبل، والتي كانت تقدر عدد الفقراء بنحو ثلث المجتمع المصري.
ومن خلال الاطلاع على البيانات الرسمية للحكومة المصرية، يتبين أن ما تم على مدار السنوات الماضية على الصعيد الاقتصادي، وما تعلنه الحكومة من إنجازات، لم يقترب من المشكلات الأساسية للاقتصاد المصري، وهو ما يظهر من خلال تحليل بيانات ميزان المدفوعات لعام 2021/ 2022، والمنشور حديثًا على موقع البنك المركزي المصري.
على مدار السنوات الماضية على الصعيد الاقتصادي، وما تعلنه الحكومة من إنجازات، لم يقترب من المشكلات الأساسية للاقتصاد المصري
فقد بلغ العجز في ميزان المدفوعات المصري ما يزيد قليلًا عن 10.5 مليارات دولار مع نهاية العام المالي 2021/ 2022، مقارنة بفائض قدره نحو 1.8 مليار دولار في العام المالي 2020/ 2021، وإن كان الفائض المتحقق في ميزان المدفوعات لمصر في بعض السنوات يأتي في الأصل من خلال إيرادات الاقتراض الخارجي، لذلك فهو فائض محاسبي، وليس فائضاً بالمعنى الاقتصادي السليم.
وبالاطلاع على البيانات الخاصة بمحاور ميزان المدفوعات لعام 2021/ 2022 في مصر، نجد أن المشكلات الأساسية لمصر تزداد تجذرًا، وأن ما يتم من خلال الممارسات الاقتصادية للحكومة هو مجرد مسكنات، لا ترقى لأن تكون لمصر رؤية مستقبلية، تنتقل بالبلاد لمصاف الدول الصاعدة أو المتقدمة.
زيادة التبعية للخارج
طبيعة ميزان المدفوعات أنه يكشف عن حجم وطبيعة التعاملات الخارجية لأي اقتصاد، وفي الحالة المصرية، وعلى مدار العقود الماضية نجد أن العجز في الميزان التجاري يزداد عامًا بعد عام، ليؤكد على حقيقة زيادة اعتماد النشاط الاقتصادي للبلاد على الخارج بشكل كبير.
بلغ حجم التبادل التجاري السلعي لمصر مع العالم الخارجي 131.2 مليار دولار في 2021/ 2022، مقارنة بـ 99.3 مليار دولار في 2020/ 2021، أي أن هناك زيادة تقدر بنحو 31 مليار دولار. ولكن من خلال قراءة تحليلية لمكونات التعامل الخارجي نجد أن العجز التجاري لمصر بلغ 43.3 مليار دولار مقابل 42 ملياراً في العام السابق.
والأمر الثاني أن هناك قفزة بالصادرات السلعية هذا العام، حيث قدرت قيمة تلك الصادرات بنحو 43.9 مليار دولار مقابل 28.6 مليار دولار بالعام الماضي، وهذه القفزة ترجع بالأساس للزيادة في أسعار النفط بالسوق الدولية، حيث قفزت صادرات مصر النفطية إلى 17.9 مليار دولار هذا العام مقابل 8.5 مليارات دولار العام الماضي.
وعلينا أن نبين أن الصادرات النفطية ليست صادرات مصرية خالصة، وأن عائدها لا يرجع للخزانة العامة للدولة بالكامل، وبسبب أنها تتضمن حصة الشريك الأجنبي، والتي تقدر بنحو 40%. الأمر الثاني أن نتيجة الميزان التجاري للنفط تبين أن الفائض قيمته 4.4 مليارات دولار فقط، لأنه بالوقت الذي زادت فيه صادرات مصر النفطية كما ذكرنا، زادت أيضًا وارداتها النفطية في نفس العام لتصل إلى 13.5 مليار دولار.
أما المحور الأكثر أهمية في الميزان التجاري السلعي لمصر، فهو ما يتعلق بالتجارة السلعية غير النفطية، حيث بلغت الواردات السلعية غير النفطية لمصر هذا العام 73.7 مليار دولار مقابل 62.1 مليار دولار العام الماضي.
وتأتي هذه النتيجة السلبية المتزايدة، في ظل شكوى لدى المستوردين من شح العملة الأجنبية، وعدم قدرتهم على استيراد ما يحتاجونه من سلع وخدمات، لصالح مؤسساتهم الإنتاجية، وهو ما ترتب عليه توقف بعض الصناعات.
والجدير بالذكر، أن مصر لديها مشكلة جذرية في مكونات وارداتها السلعية، وهي أن غالبية هذه الواردات لا يمكن الاستغناء عنها، فهي في الغالب عدد وآلات، ومستلزمات إنتاج، وسلع مصنعة، فضلًا عن الواردات الغذائية، وعلى رأسها القمح والحبوب وزيوت الطعام.
نزيف عوائد استثمارات الأجانب
على الرغم من أن بيانات ميزان المدفوعات تبين وجود زيادة ملحوظة في قيمة تدفقات صافي الاستثمار الأجنبي المباشر، لتصل إلى 8.9 مليارات دولار، مقارنة بـ 5.9 مليارات دولار العام الماضي، إلا أن غالبية هذه الزيادة أتت في قطاع النفط والغاز، وهو ما يقلل كثيرًا من القيمة المضافة لهذه الاستثمارات، حيث إنها استثمارات في صناعة استخراجية، وليس صناعة تحويلية.
مصر لديها مشكلة جذرية في مكونات وارداتها السلعية، وهي أن غالبية هذه الواردات لا يمكن الاستغناء عنها، فهي في الغالب عدد وآلات
ومما أدى كذلك إلى زيادة قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر هذا العام، عوائد بيع الشركات العامة للأجانب بقيمة 2.2 مليار دولار، وكذلك حصيلة تحويلات غير المقيمين بمصر لشراء عقارات بنحو 970 مليون دولار.
الأمر الثاني، أن النتيجة النهائية لوجود الاستثمارات الأجنبية في مصر، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، تعتبر استنزافا لموارد النقد الأجنبي المحدودة، فبيانات ميزان المدفوعات تظهر أن مدفوعات دخل الاستثمار، والتي تتضمن فوائد الديون الخارجية، تصل إلى 16.7 مليار دولار، مقارنة بـ 12.9 مليار دولار في العام الماضي.
ومما عانى منه ميزان المدفوعات المصري لعام 2021/2022، أن الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة، شهدت خروجًا مدويًا، قدر بنحو 21 مليار دولار، وهو ما أدى إلى أزمة عنيفة في سعر صرف الجنيه المصري، ويظهر هذا الأمر، سوء الإدارة الاقتصادية التي اعتمدت بشكل كبير على الأموال الساخنة.
زيادة العوائد الريعية
حصيلة مصر من النقد الأجنبي على مدار عقود تعتمد بشكل كبير على العوائد الريعية، وهذا ما يظهر بوضوح من بيانات ميزان المدفوعات هذا العام أيضًا، فعلى رأس هذه المصادر تربعت تحويلات العاملين بالخارج، والتي شهدت زيادة طفيفة هذا العام، حيث بلغت 31.9 مليار دولار، مقارنة بـ 31.4 مليار دولار.
ثم قطاع النفط الذي حقق إيرادات بـ17.9 مليار دولار مقارنة بـ 8.5 مليارات دولار العام الماضي، وفي المرتبة الثالثة قطاع السياحة حيث حقق هذا العام إيرادات بنحو 10.7 مليارات دولار، مقارنة بـ 4.8 مليارات دولار العام الماضي، وفي المرتبة الأخيرة الإيرادات الريعية، تأتي إيرادات قناة السويس بعائد قيمته 6.9 مليارات دولار، وبزيادة بحدود مليار دولار عن عوائد العام الماضي.
وبناء عليه، فالحكومة المصرية تنتظر الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي خلال الأيام القادمة، ويحتمل أن يكون بحدود 6 مليارات دولار، إلا أن الحكومة لن تكتفي بذلك، بل سيكون الحصول على القرض بوابتها للحصول على قروض من سوق السندات الدولية وغيرها من المصادر الأخرى.
كما ستكون هناك إجراءات قاسية على الصعيد الاجتماعي، بناء على ما ستفرضه أجندة صندوق النقد، ولذلك يتوقع ألا يخرج الاقتصاد المصري من أزمته الحالية خلال عام 2022/ 2023، وكذلك ستظل مشكلاته الرئيسة كما هي. والتحدي الذي يفرض نفسه على الحكومة المصرية، هو متى تقدم برنامجًا زمنيًا للوصول لحل جذري للمشكلات الاقتصادية المزمنة؟