هل يُمكن الحديث عن تطوّر للموسيقى العربية في ظلّ غياب مناهج دراسية لأبرز آلاتها في معظم الأكاديميات من المحيط إلى الخليج؟ وهل يُمكن للمبادرات الأهلية أن تُخرّج موسيقيين محترفين مع الإقبال المتزايد على تعلّم العزف على الآلات الغربية؟ ولماذا نفتقد إلى صانعي الآلات الشرقية، وما تأثير ذلك على حفظ التراث الموسيقي العربي؟
تساؤلات عديدة خطرت ببال الناشط الأردني، ربيع زريقات، الذي انجذب إلى تقاسيم الناي في الموّال؛ إذ تبتدئ به الأغنية العربية في كثير من الأحيان. ومنذ 2005، حاول اقتناء آلة للعزف عليها، ففوجئ أنها غير متوفّرة في الأسواق المحلية بذريعة أن القصب في الأردن غير مناسب لتصنيعها، ما اضطرّه إلى شرائها من الخارج، ولم تتغيّر الحال إلى يومنا هذا، كما يشير في حديثه إلى "العربي الجديد".
يضيف: "قبل سنتَين، بدأت التعلّم بشكل احترافي على يد الموسيقي ليث سليمان الذي كان قد عاد من مصر بعد حصوله على درجة الماجستير من أكاديمية الفنون التابعة للمعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة عن أطروحته "دراسة مقارنة لأساليب عازفي الناي في مصر وبلاد الشام"، لتنطلق نقاشات جدية حول تأسيس مشروع في هذا المجال".
الحصول على القصب كان هدفَه الأول، فذهب إلى أماكن متعدّدة في الأردن ولم يكن حينها يميّز بين القصب البري وقصب السكّر. وبعد تجوال في مناطق وادي شعيب والأغوار الجنوبية وأم قيس استطاع العثور على غايته.
يلفت زريقات إلى أنه صنّع عدّة نماذج من الناي حتى نجح في أحدها، مستفيداً من البحث على الإنترنت حول طرق تهيئة القصب، حتى تمكّن من امتلاك الخبرة التي أتاحت له إنتاج ناي بجودة ومواصفات عالية، موضّحاً أنه افتتح مخزناً صغيراً على درج الكلحة في وسط العاصمة الأردنية منذ عامَين، للتدريب على تصنيعه.
في العام التالي، انتقل إلى المقرّ الجديد في حي اللويبدة، والذي يحتوي على صالة تصلح لإقامة عروض موسيقية وقاعتَين ومشغل. وهناك، انصبّ تفكيره على إيجاد فضاء يُتيح فرصة تعلّم هذه الصناعة بالتزامن مع التدريب على العزف على الناي وفق أسس وقواعد أكاديمية. في ضوء ذلك، أسّس "بيت الناي" كمبادرة أردنية عربية بالشراكة مع "مسرح البلد" و"الملتقى العربي" وأستاذ الناي ليث سليمان.
النقلة النوعية، بحسب زريقات، تمثّلت في توقيع اتفاقيات تعاون مع "مؤسسة عبد الحميد شومان" و"منصّة نوى" و"أجنحة الأمل"، حيث حصل "البيت" على منحة لتدريب ثمانية موسيقيّين محترفين لمدة سنة واحدة، لضمان استدامة المشروع؛ حيث سيقوم هؤلاء بتدريس الناي في العام المقبل، إلى جانب تدريب مجموعة أخرى، في منطقة غور المزرعة، على العزف على الآلة.
يُتابع: "في الوقت نفسه، سنقيم دورات للعزف على الناي وآلات شعبية شقيقة؛ مثل: الشبابة والمجوز واليرغول، ونعقد ستّ عشرة ورشة حول الأردن، تتضمّن كل واحدة منها سبع جلسات للتعريف بالآلة وتصنيعها والعزف عليها وإنشاء مشغل صغير يُترك في المكان بعد انتهاء كلّ ورشة".
يعتقد زريقات أن المسألة لا تتوقّف عند محاولات رفع التهميش عن آلة موسيقية لا تجد اليوم مهتمّين بها، بل تتجاوز ذلك إلى الحفاظ على موروث موسيقي يربط المرء ببيئته وماضيه، حيث أن القصص والحكايات الشعبية المأثورة بدأت تندثر بفعل غياب الناي وغيره من الآلات النفخية، ما يدلّ عليه استذكار الجيل القديم للعديد منها حين أقبل أبناؤهم لتعلّم العزف عليه.
من تلك القصص أن عازف "مجوز" كان يرافق المقاومين الفلسطينيّين أثناء عملياتهم الفدائية المنطلقة من غور الأردن في ستّينات القرن الماضي ضد الاحتلال الصهيوني فيزيد حماستهم. وهناك رواية أقدم تتحدّث عن مشاركة عازفي المجوز في الثورة السورية الكبرى التي انطلقت عام 1925 من جبل العرب لمقاومة الاحتلال الفرنسي.
وفي جنوب الأردن، توجد روايات متعدّدة عن استخدام أهاليه للمجوز والشبابة لطلب النجدة من محيطهم، حين كانوا يتعرّضون إلى غزاة أو قطّاع طرق.
في هذا السياق، يقيم "بيت الناي" لقاءً يستضيف فيه أحد العازفين مرّة كل شهرَين للحديث عن تجربته ومعرفته الموسيقية، كما سيُصدر منهاجاً آخر من كتيّب نظري وقرص مدمج يحتوي تمارين مسجّلة بالفيديو. وفي نهاية العام، سيجري تقييم التجربة بهدف وضع رؤية وبرنامج للمرحلة التالية.
من جهته، يقول ليث سليمان، في حديث إلى "العربي الجديد"، إنه "ليس هناك تخصّص مستقل في الموسيقى العربية في كلّ الجامعات العربية تُخرّج موسيقيّين متخصّصين في الآلات الشرقية، ولم تُدرَج برامج لتدريس آلتَي القانون والناي، نظراً إلى قلّة الإقبال على تعلّمهما، وغياب المناهج الأكاديمية المتخصّصة، وعدم وجود صناعة لهما".
أصبح الوضع أفضل قليلاً مع زيادة الاهتمام بحثياً وموسيقياً بالآلات الشرقية، وفق سليمان الذي يشير إلى أن أطروحة الماجستير التي أعدّها درس فيها مرحلة التأثّر والتأثير بين عازفي الناي في الشام ومصر، متناولاً عدّة نماذج؛ هم: عبد السلام سفر وبدر الدين حلبية في سورية، وحسن فقير من الأردن وسمير سبليني من لبنان.
ويوضّح أن تجارب هؤلاء كانت جزءاً من مدرسة المشايخ في التكايا والزوايا الصوفية التي تعزف الناي في حلقات الدراويش التي ترتحل من مكان إلى آخر، ثمّ أنشأ كلّ واحد منهم أسلوبه الخاص، من خلال توظيفه التراث الموسيقي في بلاده.
يتابع: "المناهج الموجودة في الأكاديميات العربية فقيرة؛ حيث لا توجد سوى ثلاثةٌ وُضع أحدثها عام 1995، ولم يتم إضافة الجديد على منهاج الموسيقي المصري محمود عفّت الذي أصدره عام 1968، وهو مخصّص لتدريس المبتدئين".
وينوّه إلى أن الطالب يملّ عادةً من دراسة المادة النظرية، لذلك اختار في "بيت العود" وضع تمارين عملية مستمدّة من أغانٍ عربية وأردنية؛ منها: "يا هلا بالضيف ضيف الله"، و"فوق النخل"، و"زريف الطول" و"البنت الشلبية" و"الحلوة دي".
"من خلال هذه الأغاني نشرح المقام المستخدم والمسار اللحني النغمي وطبقات النفح المستخدمة فيها، وهي امتداد لفكرة نفّذها "معهد إدوارد سعيد" في رام الله بعنوان شرقيات، ووضعه الفنّان أحمد الخطيب لمنهاج العود ولاقى قبولاً ورواجاً في عدد من الأكاديميات العربية، ونحن نقوم بتكييفه لآلة الناي، كما نعرض حلقات فيديو مصوّرة على اليوتيوب مدّتها لا تتجاوز ثلاث دقائق تُكتب أسفلها النوتة الموسيقية"، يبيّن سليمان.
حول صناعته، يقول سليمان إنها "تسعى إلى تذليل الصعوبات في عزف بعض النغمات "العارضة" غير الموجودة على الآلة بشكل طبيعي، والتي تحتاج إلى فترة تدريبية طويلة لعزفها، عبر إضافة ثقبَين إلى الناي ليصبح مجموع الثقوب تسعة بدلاً من سبعة، وهي تقنية قام بها الموسيقي المصري إسماعيل البدري أولّ مرة عام 1957، لتسهيل العزف واستخراج جميع المقامات الموسيقية العربية وتصويرها.