اختتمت مساء أمس النسخة الثانية والسبعون لـ"مهرجان أفينيون" المسرحي بعرض "ici-bas" الذي جمع الموسيقي غابرييل فوريه والكريوغراف ريمون هوغ. على مدار أسابيع ثلاثة، شهدت التظاهرة المسرحية عروضاً متنوعة تناولت قضايا عديدة كالعنف السياسي والفردي والهجرة والموت والمآسي الجماعية والخاصة، هذا على خلاف ما سبق الإعلان عنه باتخاذ الجندر كثيمة رئيسية لهذه الدورة.
تقابل هذه الدورة العام الأول في الولاية الثانية لمدير المهرجان أوليفيه بي (الولاية الأولى دورات أربع بين 2014 و2017). المخرج الفرنسي الذي عمل على زيادة عدد العروض المتاحة مجانياً للجمهور، حاول إعطاء الفرصة لكثير من الأسماء الشابة لتقديم إنتاجاتها على حساب مشاركة المسرحيين العالميين البارزين.
يبقى أن هناك عروضاً عديدة تصنع في كل مرة الوجه المشرق لـ"أفينيون"، معظمها من أوروبا، وإن كانت هناك بعض العروض التي رافقتها خيبة جماهيرية إذ لم تمتلك الحدود الدنيا من السوية الفنية وشكلت صدمة للمتابعين والنقاد على حد سواء.
من أبرز ما يبقى في ذاكرة متابع دورة هذا العام عرض "كرياتور" لـ ساشا فالس التي ذهبت كعادتها في التجريب إلى الأقصى، بقدرة استثنائية تمكنت من رسم لوحات مشهدية باهرة ضمن سينوغرافيا أشبه بالحلم (من أزياء وضوء وإكسسوار)، وحكت عبر أجساد الراقصين عن الرغبة والخوف والانتظار في زمن يتصاعد فيه العنف بشكل متسارع.
عرف المهرجان أعمالاً كثيرة مقتبسة من أعمال روائية، أبرزها "الأشياء التي تمر" (الصورة) للبلجيكي ايفو فان هوف، العمل المقتبس عن رواية تحمل الاسم ذاته لمواطنه لويس كوبوروس (1863- 1923). بين شاعرية الموت ورهبته، تتوافد ثلاثة أجيال من عائلة واحدة على الخشبة لتحكي عن أحلامها وخيباتها، فتتخلى عنها تدريجياً خلال صراعها مع الزمن المنتصر دائماً في نهاية المطاف. في أحد العروض (مسرح في الهواء الطلق)، شهدت المدينة أمطاراً غزيرة، إلا أن هذا لم يمنع طاقم العرض من متابعة المسرحية وكذلك الجمهور الذي صفق طويلاً غير مكترث بالأمطار.
"بعضهم لم ير البحر إطلاقاً" المأخوذ من رواية تحمل الاسم نفسه للروائية جولي أوتسوكا (1963)، أعده المخرج الفرنسي ريتشارد برونيل مقدماً عملاً ملحمياً يحكي عن هجرة العمال اليابانيين في النصف الأول القرن العشرين إلى أميركا. موضوع يعد من المحرمات الحديث عنه في الولايات المتحدة الأميركية، ظهر بمعالجة درامية ذكية استطاع أن يروي قصص الهجرة وما آلت إليه وآثارها النفسية والاجتماعية والرغبة الكامنة خاصة بالظروف المحيطة بالعمال المهاجرين في ذلك الوقت.
وشكل عرض "اللاعبون، ماو الثاني، الأسماء" (المأخوذة من ثلاثة أعمال روائية للكاتب الأميركي دون ديليلو) لجوليان غوسلان (1987) إحدى مفاجآت العام، حيث استطاع عبر عرض تتجاوز مدته عشر ساعات معالجة العنف والتطرف من زوايا مختلفة مستفيداً من الفن السينمائي ومتميزاً بإدارة الممثلين الذين كانوا على الخشبة طيلة العرض بطاقة وإرادة لافتتين.
بعيداً عن العروض المأخوذة عن أعمال أدبية، كان عمل "la reprise" للسويسري ميلو راو واحداً من درر المهرجان، حيث اعتمد على قصة حقيقية، قدم خلالها درساً، نظرياً وعملياً، في المسرح وفي قدرته على الاشتباك مع الواقع وصدمه.
وفي ذات الحديث عن الأعمال المقتبسة من حوادث حقيقية، قدم عمل "ميدوز" نص وسينوغرافيا وإخراج مجموعة "les batards dorés" دراما إنسانية أشبه بمحاكمة بعد قرنين من الزمن على سفينة غرقت تحمل الاسم نفسه، وفيه محاكمة للتاريخ وللاستعمار وإعادة اعتبار للضحايا في إحالات كبيرة لانهيار المنظومة القيمية في عصر التطرفات الذي نحيا أحد فصوله اليوم.
الكوريغراف اللبناني علي شحرور (1989) حضر بـ "عساه يحيا ويشم العبق" وتمكن من أن يضع بصمة في دورة هذا العام، وهذا أمر نادر ما يحصل مع المشاركات العربية، ذلك بفضل جهده البحثي الجلي عن تاريخ المنطقة وارتباط الجسد والموسيقى وعلاقتهما بالمثيولوجيا وطقوس الفرجة.
بشكل عام، يوجد تفاوت كبير في مستويات العروض، أعمال كثيرة للنسيان في نسخة هذا العام، بعضها شهدت خروج الحاضرين أثناء تقديمها، فوُضعت الكثير من إشارات الاستفهام حول وجودها في البرنامج الرسمي وآلية اختيارها، ولا سيما التي قدمت في قصر الباباوات (المكان الذي تُقدم فيه عادة عروض مميزة) كـ"ثيست" لتوما جولي و"حكاية الماء" لإيمانويل غات.
كذلك حلت عروض متواضعة في أماكن أخرى كالعمل الإيراني "سيتسطيع دائما قول: من أجل حب النبي" لـ غورشاد شاهيمان حيث يضع حشداً من اللاجئين على خشبة المسرح فيحاولون استثارة عواطف الحضور من دون أي جهد مبذول لتقديم حكاياتهم، كذلك كان حال عروض كثيرة أخرى كـ"غيرتو بيلاو" و"أورلاندو آخر" والعرض المصري"ماما" لأحمد العطار… وغيرها.