مرض الطائفية

23 يونيو 2018
مقطع من عمل ثامر الماجري/ تونس
+ الخط -

يمثل الاستبداد السياسي والطائفية والإسلام السياسي أبرز تمظهرات السياسة العربية في العقود الأخيرة. لكن، في ما يتعلق بالطائفية، فلم ينتظر المراقبون للوضع العربي أن تعلن عن نفسها بهذه القوة في الساحة العربية، منذ احتلال العراق ومروراً بالثورة السورية، رغم أن انبعاث الوعي الطائفي، كما عبَّر عن ذلك محمد عابد الجابري في نص مبكر، كان "مقروناً بقيام الوعي النهضوي ونتيجة من نتائجه"، مؤكداً أنه جاء ردة فعل على الطبيعة الاستبدادية للحكم العثماني.

لكن ما قيل عن العثمانيين بالأمس، يمكننا أن نقوله اليوم عن أنظمة الاستعمار الداخلي في العراق وسورية وأقطار أخرى. لقد أفرز فشل مشروع التحديث ومعه مشروع بناء الدولة الوطنية، وإخفاق دولة ما سمي بالاستقلال في التأسيس لثقافة وطنية تقبل بالاختلاف والتعدّد؛ عودة المكبوت الطائفي من بين مكبوتات أخرى.

وفي السياق نفسه، يُعرّف عزمي بشارة الطائفية قائلاً: "إنها تعكس وظيفة الهوية بإحلالها محل القيم، والتعصّب محل المعايير الأخلاقية، ما يؤدي إلى طمس الحدود بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة، وإحلال الحدود بين "نحن" و"هم" في مكانها".

ويوضّح في كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة"، والذي يقدم دراسة شاملة حول هذه القضية من وجهة نظر تاريخية وسوسيولوجية، ارتباط المسألة الطائفية بما يمكن أن نصطلح على تسميته المسألةَ الدينية داخل المجتمعات العربية المعاصرة، فإبعاد الدين عن الدولة بعد الاستقلال لم يحل هذه المسألة، لأن الدولة فشلت في قراءة الدين/التديّن في حدود العقل، أو في إعادة إنتاجه أخلاقياً، كما فشلت في بناء ثقافة علمانية وطنية، ليرتد عليها المكبوت الديني كعنف طائفي أو مذهبي. وسيساهم كل ذلك في انتشار خطاب الكراهية داخل المجتمعات العربية، ويرافق حتى اللاجئين العرب إلى منافيهم الغربية أيضاً.

تمثل الطائفية السياسية صراعاً مع الدولة الوطنية، لأنها ترفع التبعية الدينية، كما يوضح بشارة، فوق التبعية للأمة الحديثة وللدولة القومية، وهي بلغة أخرى ضد قيم المواطنة، بل إنها "لا ترمي إلى نشر الدين أو المذهب، وحين تبذل جهداً لنشرهما بدوافع طائفية في هذا العصر، فغالباً ما يكون الجهد سياسياً لأن نشر المذهب يعني في هذه الحالة الولاء السياسي لحزب طائفي أو دولة طائفية"، وهي الفكرة نفسها التي عبّر عنها برهان غليون في كتابه "نظام الطائفية: من الدولة إلى القبيلة"، معتبراً أن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين.

لكن سيكون من الخطأ أن نعتبر القومية أو التشبث بالمشروع القومي خير جواب على الطائفية وعلى التدخل الخارجي في المنطقة العربية، فدولة المواطنة لا تلتقي بالضرورة مع القومية، ولا تطلب توحيد المجتمع في هوية واحدة، ولا تعتبر التعدد الديني والعرقي للمجتمعات العربية خطراً على وحدتها، فوطنيتها دستورية وليست متخيَّلة.

إن أشد ما تخشاه القوى المتآمرة على العالم العربي، داخلية كانت أو خارجية، هو أن يتحوّل هذا العالم إلى الديمقراطية، لأن ذلك يعني في ما يعنيه أن يمتلك قراره ومستقبله. ولا ريب أن كل المشاريع التي تقف ضد هذا التحوّل نحو الديمقراطية، سواء كانت طائفية أو إسلاموسياسية أو تلك المرتبطة بالثورة المضادة هي مجرّد أدوات غير واعية للاستعمار الجديد.

تخطئ الطائفية السياسية طريقها إلى الماضي، عبر أسطرته وأدلجته وتسييسه، لتحوّله بذلك إلى عقبة أمام بناء مستقبل مشترك، إذ كما كتب الجابري: "فإن التراث في المجتمع الطائفي ليس واحداً والأصول ليست هي هي، أو على الأقل لا يتم الارتباط بها بالحماس نفسه ولا بالرؤية نفسها، بل كثيراً ما يحدث، وهذا ما حصل بالفعل، أن تعطى الأولوية ليس للصراع ضد "الآخر" أو من أجل تجاوز الماضي إلى المستقبل، بل للصراع من أجل "الأصول" نفسها"، واليوم، ارتفعت الطائفية السياسية بهذا الصراع من أجل الأصول إلى مرحلة تراجيكوميدية، تلك المتعلقة بالصراع على المقامات والمقابر في كل من سورية والعراق.

المساهمون