كان القاص السوري الراحل، سعيد حورانية، هو من أطلق على الظاهرة الأدبية التي طغت على عالم القراءة الروائية العربية والعالمية في سبعينيات القرن العشرين اسم "حمّى أيتماتوف". وقد كانت التسمية ملائمة لما حدث لجيل من العرب الذين قرؤوا الروائي القرغيزي (السوفييتي في ذلك الزمن).
وقد عرفنا جنكيز أيتماتوف (1928 - 2008) في سبعينيات القرن العشرين في كتابَين ضمّا أربع روايات، الأول منهما هو "وداعاً يا غولساري"، وفيه رواية أخرى هي "جميلة"، والثاني هو "المعلّم الأوّل" وفيه رواية أخرى هي "شجيرتي في منديل أحمر"، ثم تتالت في ما بعد ترجمة رواياته مثل "أرض الأم" و"النطع" و"يطول اليوم أكثر من قرن" و"السفينة البيضاء" التي تضمّ رواية قصيرة هي "الكلب الأبلق الراكض عند حافة البحر".
أمّا رواية "جميلة"، فقد قال عنها الشاعر الفرنسي أراغون إنها أجمل قصّة حب في العالم. والمتأمّل في هذه الرواية القصيرة سيكتشف أن الرائع فيها ليس قصّة الحب وحدها، بل الكتابة الفريدة المحيّرة التي كُتبت بها الرواية، واللافت أن الكتابة عن قصّة الحب، أو عن علاقة الحب بين دانيار وجميلة، لا تتعدّى عشرين صفحة متفرّقة في العمال، ولأن الرواية مكتوبة بضمير المتكلّم، وهو الراوي الشاهد الذي يحكي عن العاشقَين، فهو لا يقترب من مشاعرهما العميقة، ولكنه يستطيع أن يمنح القارئ مساحة كبيرة للتأمّل وملء الفراغ عبر الوصف الدقيق المدروس كلمةً وراء كلمة، وجملةً بعد أخرى.
لدى أيتماتوف لغة بسيطة، وتكاد كتابته تخلو من الصور البلاغية، إذ يعتمد في نصّه على القوة الرمزية التي تتضمّنها حكاياته أو شخصياته، والحبكة لديه تعتمد في المقام الأول على طريقة الحكي، وهي الطريقة الكلاسيكية التي يصل فيها إلى حكايته بسهولة وبساطة تكاد تخدع القارئ عن التقنيات، وهذا واحد من أسرار الكتابة الروائية التي جعلت قراءته شعبية على الصعيد العالمي (هناك من يحصي أنه تُرجم إلى 165 لغة في العالم)، فيما تُحقّق نصوصه المعادلة الصعبة في التلقّي؛ وهي أن تكون مشوّقة، وأن تحافظ على هذا التشويق عبر إيقاع دقيق مرهف يُحسن أيتماتوف تقديمه في كل رواياته.
وخلافاً لما كان يقوله النقد العربي عن الروائي، من أنه كان يمجّد إنسان العمل، فمن الواضح، إذا ما قُرئت رواياته بضوء جديد يتخلّص من سطوة الأيديولوجيا، أنه كان يمجّد إنسان الحرية، ويدافع عن خيارات الأفراد الأحرار في مواجهة تعسّف الجماعة وانغلاقها، في نبرة حزينة تستبطن اعتراضاً خفياً على القهر والتسلُّط في زمن حُكم الفرد الذي ذهب ضحيته والده، وهي حادثة كان يتجاهلها ذلك النقد من قبل.
هذه هي الخصوصية الفريدة التي منحته القدرة على تقديم هذه الشخصيات من خلال البطولات الصغيرة التي تُظهر جوهر هذا الإنسان وحقيقة وجوده، ذلك الوجود الذي يظهر لدى جميلة ودانيار، أو لدى الراوي الذي يتواطأ مع حبّها ويقول مدافعاً عن خياره: "من خنت؟ قبيلتنا؟ العائلة؟ لكنني لم أخن الحقيقة. حقيقة الحياة".