الكبار يموتون والصغار يتذكّرون: فصولٌ من نكبة الألبان في تشامريا

21 أكتوبر 2024
من مخيّم كافايا للاجئين التشام وسط ألبانيا عام 1945 (أرشيف الأمم المتّحدة)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت ألبانيا نكبات تاريخية بدأت بتقسيم أراضيها بعد نهاية الحكم العثماني عام 1912، مما أدى إلى توترات سياسية وعسكرية، خاصة مع تهجير الألبان من إقليم تشامريا خلال الحرب الأهلية في اليونان.
- في عام 1953، منحت ألبانيا الجنسية للاجئين التشام الذين عاشوا تحت نظام شيوعي صارم حتى الثمانينيات، ومع انهيار النظام، تأسست "جمعية تشامريا" للمطالبة بحقوق المهجرين.
- في الذكرى الثمانين للإبادة الجماعية، أكد رئيس "حزب التشام" على أهمية الذاكرة الجماعية، مستلهمين من تجارب شعوب أخرى مثل الفلسطينيين.

في حياة الشعوب نكباتٌ قد تختلف في مسمّياتها وأسبابها ومدّة استمرارها وما آلت إليه، ولكنّها تشترك في أمر واحد: وجود أيديولوجية لا تقبل بالآخر وتعمل على نفيه وإلغائه بأساليب متعدّدة، وتُراهن على الزمن في المنافي حيث "يموت الكبار وينسى الصغار". ومن هذه النكبات نكبة الألبان عام 1944، التي جرت استعادتها مؤخّراً في ذكراها الثمانين، بينما يشهد العالم نكبةً جديدة في فلسطين.


من التقسيم إلى النكبة

كان عام 1912 نهاية الحُكم العثماني الطويل لألبانيا التي أعلنت نخبتها السياسية استقلالها في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، بينما كانت معظم الأراضي الألبانية تحت احتلال الجيوش البلقانية. ولذلك تُرك مصير ألبانيا وحدودُها بيد القوى الكبرى التي اجتمعت في مؤتمر لندن (1912 - 1913)، واختلفت فيما بينها (النمسا ومن ورائها ألمانيا، وصربيا ومن ورائها روسيا). كاد ذلك أن يؤدّي إلى حرب بين صربيا والنمسا، وهو ما حدث في صيف 1914، حين اندلعت الحرب العالمية الأُولى. ومع عدم الاستعداد للحرب، جرى قبول الحلّ الوسط بوضع حدودٍ لألبانيا تتّسع لنصف الألبان، بينما دخل النصف الآخر ضمن مملكة صربيا (إقليم كوسوفو) ومملكة اليونان (إقليم تشامريا).

ولكنّ اغتيال وليّ عهد النمسا في سراييفو عام 1914 فجّر الأوضاع في البلقان وأوروبا والعالم. اختفت خرائط وبرزت خرائط جديدة ضمن الصراع بين دول الوسط ودول الوفاق حتى نهاية 1918، حين رُسمت خريطة جديدة لأوروبا والشرق الأوسط الجديد. وفي هذا السياق، بقيت ألبانيا ضمن حدودها عام 1913، وأصبح إقليم كوسوفو ضمن مملكة يوغسلافيا، بينما بقي معظم إقليم تشامريا في مملكة اليونان مع جزء صغير في جنوب ألبانيا.

كانت سنة 1919 واعدةً لحقّ الشعوب في تقرير المصير مع تأسيس "عصبة الأمم" التي قرّرت إرسال لجنة للتحقُّق من رغبات السكّان في بلاد الشام. ولكنّ انسحاب الولايات المتّحدة من هذه الهيئة، بسبب عدم موافقة الكونغرس عليها، أعاد الاعتبار للمعاهدات السرّية التي وُقّعت خلال الحرب (معاهدة لندن عام 1915، واتفاقية سايكس بيكو وغيرها). وفي هذا السياق، شنّت اليونان في نهاية صيف 1919 حملةً عسكرية للسيطرة على غرب الأناضول، وهو ما أشعل "حرب الاستقلال" بقيادة مصطفى كمال، والتي أدّت إلى هزيمة ساحقة للقوّات اليونانية في صيف 1922.

مُنحت الجنسية الألبانية لكلّ اللاجئين التشام عام 1953

ولكن في هذه المرّة أدّت الحرب إلى نوع من "التطهير العرقي" الذي أسبغت عليه "عصبة الأمم" صفةً قانونية دولية باسم "تبادل السكّان الإلزامي بين اليونان وتركيا" في لوزان عام 1923، بالاستناد إلى المعيار الديني، وأدّى إلى تهجير نحو نصف مليون مسلم من اليونان إلى تركيا وقرابة مليون ونصف المليون مسيحي من تركيا إلى اليونان. ولكن لم يكن هناك ما يربط معظم هؤلاء المسلمين مع تركيا الكمالية سوى الدين، ولذلك حُكم عليهم أن يذهبوا إلى المجهول.

إلّا أنّ ألبانيا المجاورة احتجّت على ترحيل الألبان من إقليم تشامريا باعتبار أنّهم من المسلمين، ورفعت الأمر إلى "عصبة الأمم" التي ناقشت الأمر في عدّة جلسات على مدار سنوات، خصوصاً أنّ الألبان أصبحوا يهربون إلى ألبانيا المجاورة بدلاً من إرسالهم إلى الأناضول ضمن "التبادل القسري للسكّان"، وهو ما أدّى إلى توتُّر العلاقات بين الدولتَين.

مع صعود موسوليني وطموحاته في التمدُّد نحو المتوسّط، قام باحتلال ألبانيا في السابع من نيسان/إبريل 1939، ثم شنّ غزواً على اليونان في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1940، استعان فيه بمتطوّعين ألبانيّين من إقليم تشامريا، ثمّ جاء الغزو الألماني - الإيطالي - البلغاري لليونان في السادس من نيسان/إبريل 1941، الذي أدّى إلى سيطرة إيطاليا على معظم اليونان وصولاً إلى كريت. وفي هذا السياق مَنحت إيطاليا الألبان في إقليم تشامريا حُكماً محلّياً، ولكن استسلام إيطاليا في الثامن من أيلول/سبتمبر 1943 سرّع بالوصول إلى الحرب الأهلية الأُولى (1944 - 1945) بين قوّات اليمين EDES واليسار ELAS في اليونان.

انقسم الألبان بين من شارك في القتال مع الجبهة اليسارية التي كانت تُسيطر على شرق ووسط اليونان ومن بقي على الحياد، بينما تمركزت قوّات الجبهة اليمينية في شمال غرب اليونان المُطلّ على الأدرياتيكي الذي كانت تتلقّى منه المساعدات البريطانية والأميركية. ومع هذه المساعدات تمكّنت قوّات الجبهة اليمينية EDES من اجتياح إقليم تشامريا في النصف الثاني من عام 1944 وارتكاب مجازر جماعية حتى حزيران/يونيو 1945 لإرهاب الألبان ودفعهم للجوء إلى ألبانيا المجاورة.

أطفال تشام في مخيم بألبانيا عام 1945
أطفال تشام في مخيم كافايا بألبانيا عام 1945

في ذلك الوقت، كان الحزب الشيوعي الألباني قد وصل إلى الحُكم وأصبحت ألبانيا مع يوغسلافيا وبلغاريا المجاورة منطقة دعم وتدريب وتسليح للجبهة اليسارية في اليونان. ولكنّ تخلّي ستالين عن الجبهة اليسارية في اليونان، بسبب اتفاقه مع تشرتشل حول خريطة أوروبا الشرقية بعد الحرب، وخلافه مع تيتو حول ذلك عام 1948، جعل ميزان القوى في الحرب الأهلية الثانية في اليونان (1946 - 1949) يميل لصالح الجبهة اليمينية. وفي هذا السياق انضمّ أنور خوجا إلى ستالين ضدّ تيتو، وانشغلت ألبانيا بزعزعة الأوضاع في يوغسلافيا التيتوية، في الوقت الذي لجأ معظم الألبان في تشامريا إلى ألبانيا واستقرّوا في معسكرات فيها.

في ذلك الوقت، كان الحلفاء قد أسّسوا "إدارة الأمم المتّحدة للإغاثة والتأهيل" UNRRA، التي قدّمت مساعدات غذائية للاجئين في كلّ مكان، بمن في ذلك اللاجئون التشام في ألبانيا. ومع نهاية الحرب الأهلية في اليونان عام 1949 وانشغال ألبانيا بحصار يوغسلافيا التيتوية وتصاعد الحرب الباردة، رأى النظام الشيوعي في تيرانا أن يتحرّر من هذا العبء الموجود في أراضيه وأصدر مرسوماً عام 1953 بمنح الجنسية الألبانية لكلّ اللاجئين التشام في ألبانيا.


الكبار ماتوا والصغار ثاروا

كانت ألبانيا "القلعة الستالينية الأخيرة" في أوروبا، وقد فاقت الأنظمةَ الأُخرى في أوروبا الشرقية بإرهابها للمواطنين بمن فيهم التشام الذي أُرغموا على قبول الجنسية من دون أن يكون لهم حقّ الاعتراض. ولكن مع "ربيع أوروبا" بدأ الدور يقترب من ألبانيا التي أُرغم فيها النظام الشيوعي على القبول بالتعدّدية نهاية 1990. وكانت المفاجأة هنا أنّ كبار التشام قد توفّوا، ولكن الصغار لم ينسوا روايات الآباء، وكانوا من أوائل من كرّسوا التعدّدية بتأسيس "جمعية تشامريا" التي أُعلنت في العاشر من كانون الثاني/يناير 1991 لـ"الدفاع عن حقوق السكّان الألبان لتشامريا والاعتراف بحقوقهم بما يتطابق مع مبادئ وأسس ميثاق الأمم المتّحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن يتمّ الاعتراف بحقّ العودة للسكّان التشام المهجّرين"، وبادرت أوّلاً إلى إجراء إحصاء للتشام الموجودين في ألبانيا؛ حيث تبيّن أنّ عددهم نحو ربع مليون.

يطالب ربع مليون من التشام في ألبانيا بحقّ العودة إلى تشامريا

ومع وصول المعارضة الديمقراطية إلى الحُكم عام 1992، قرّر البرلمان الألباني في السابع والعشرين من حزيران/يونيو 1994 اعتماد هذا اليوم لاستذكار "يوم الإبادة الجماعية للألبان في تشامريا من قبل الشوفينية اليونانية"، بينما برز حضور التشام بقوّة في التعريف بقضيتهم في المجال الدولي والضغط على الحكومة الألبانية للتفاوض مع الحكومة اليونانية حول حقوقهم المشروعة.

في غضون ذلك، برز من أجنحة "جمعية تشامريا" حزبان سياسيان؛ هما "حزب العدالة والاندماج" و"حزب العدالة والوحدة"، اللذان اندمجا عام 2011 في حزب واحد حمل اسم "حزب العدالة والاندماج والوحدة"، برئاسة شبتيم إدريسي، الذي أكّد "تحقيق الأمانة بالعودة إلى تشامريا"، ووعد بـ"إعادة الكرامة إلى آلاف المطرودين". ويلاحَظ أنّ التشام تمكّنوا، مع تأسيس هذا الحزب الموحّد للتشام في ألبانيا والتحالفات الانتخابية مع الأحزاب الأُخرى، من تحقيق حضور قويّ في انتخابات 2013 (خمسة نوّاب من أصل 140)، وفي انتخابات 2017 (ثلاثة نوّاب)، وانتخابات 2021 (ثلاثة نوّاب من بينهم رئيس الحزب).


صوت الجيل الثالث

في 27 حزيران/يونيو الماضي، الذي وافق الذكرى الثمانين للإبادة الجماعية ضدّ الألبان في تشامريا، بدأت جلسة ذلك اليوم في البرلمان الألباني بالوقوف دقيقة صمت حداداً على ضحايا التشام. حينها، قال النائب ورئيس "حزب التشام" PDIU شبتيم إدريسي: "يقول البعضُ إنّه مضى زمنٌ طويلٌ على ذلك. ولكنّي، مع زملائي النوّاب، نقول إنّ ذاكرة أيّ شعب أكبر من ذاكرة أيّ إنسان، وإنّ المجازر ضدّ أجدادنا لا ننساها، بل نستذكرها. إنّنا لا نُحمّل الشعب اليوناني مسؤولية ذلك، بل سياسة ذلك الوقت والسياسة اللاحقة التي لم تأخذ على عاتقها محاسبة أصحاب السياسة السابقة".

بعد أربع سنوات من نكبة الألبان في تشامريا، جاءت نكبة فلسطين عام 1948، وجاءت معها "أونروا" ومقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، والتي أثبت الواقع عدم صحّتها. وفي 2024 وُلدت نكبة أُخرى تفوق الأُولى، وأصبحت "أونروا" مستهدفةً أيضاً لكونها وُجدت لمساعدة الفلسطينيّين.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون