تونس 2017: منطقة الإضاءة وحدودها

31 ديسمبر 2017
"بوابة شائكة"، نضال شامخ، في تونس العاصمة، أكتوبر 2017
+ الخط -

ثمة ثغرة أساسية في الثقافة التونسية بات الشهر الأخير يفضحها سنوياً. فالفترة بين 17 كانون الأول/ ديسمبر و14 كانون الثاني/ يناير هي ما يقابل أحداث الثورة التونسية (2010 - 2011). كثيرة هي الفعاليات الثقافية التي تبرمج، من سيدي بوزيد حيث اندلعت الأحداث، إلى تونس العاصمة، حيث عرفت مدّها الأخير.

سنة بعد أخرى ينكشف أكثر فأكثر خللٌ في الثقافة التونسية، فلا يتوفّر في الغالب لتأثيث هذه الفعاليات إلا المكرّر والمتشابه، وما لا نجد فيه أثراً كبيراً للاجتهاد، حيث إن الروح المناسباتية هي أبرز ما يظهر في كل ما يُقدّم.

تبدو هذه الفترة، لدى جزء كبير من الحياة الثقافية على تعدّد مجالاتها من الموسيقى إلى المسرح، مروراً بالشعر أو بالسينما، مثل موسم: المطلوب فيه تقديم تمجيديات - حتى وإن كانت غير صادقة - للمنعطف التاريخي الأخير، وليست المادة الثقافية فيه إلا إطاراً سيظهر فيه سياسيون وإداريون يندر أن لا يأتوا بخطاب خشبي في سياقات كهذه.

عامل آخر بات يهمّش هذه الفعاليات هو أن جزءاً - لم يعد صغيراً - من الفنانين باتوا، عاماً بعد عام، ينأون بأنفسهم عن مناسبات كهذه، وبالتالي فهي تسقط أكثر فأكثر في هناتها.

وفي الحقيقة، فإن نهاية السنة مجرّد عيّنة من مشهد عام، فالثقافة التونسية برمّتها تبدو إلى حد كبير كمجموعة من مواسم. يمكن أن نلمس ذلك بوضوح مع موسمية المسرح حيث تهدأ الحركة ويجري الاكتفاء بإعادة الموجود، ولا يتوفّر الجديد إلا على عتبة موعدين؛ شهر آذار/ مارس مع فعاليات "اليوم العالمي للمسرح" و"مهرجان العرض الأول"، ثم في نهاية السنة مع "أيام قرطاج المسرحية".

السينما هي الأخرى، وإن توزّع صدور الأفلام على مدى السنة، فإن الأضواء لا توجّه إليها إلا مع حلول "أيام قرطاج السينمائية"، لتبدو هذه المهرجانات مثل نقاط مفروضة ينبغي المرور منها لاستقبال الفن في تونس. علماً أنه سيجري قريباً إطلاق "أيام قرطاج" خاصة بالشعر، وأخرى خاصة بالفنون التشكيلية، كما جرى منذ أعوام قليلة إطلاق أيام قرطاج موسيقية، وكأن المطلوب وضع كل المجالات الثقافية ضمن إيقاع مضبوط لا تزال تديره الدولة.

على مستوى آخر، يمكن أن نلمس هذه الموسمية أيضاً مع إصدار الكتب، حيث إن موجة النشر الرئيسية تكون في الشهر الثالث الذي يسبق "معرض تونس الدولي للكتاب" (أهم ما يلفت في دورة 2017 هو محاولة تجاوز دائرة الفرانكفونية). ينتج عن هذه الوضعية وجود مستويين من الحياة الثقافية التونسية؛ الأول مرئي ضمن هذه البرامج والسياقات، والثاني لا يمكن الإمساك به وبالتالي تقييمه.

وبصفة عامة، يمكن القول إن 2017 مثّلت في الغالب تواصلاً لسنوات سبقتها، فاستمرّ مثلاً الحجم الإنتاجي نفسه الذي تعوّد عليه الجمهور التونسي في المسرح والسينما، حيث كان لأبرز الأسماء إنتاج جديد هذا العام، مثل "30 سنة وأنا حاير فيك" لـ توفيق الجبالي، بمناسبة الاحتفال بثلاثينية تأسيس مسرح "تياترو"، وقدّم فاضل الجعايبي مسرحية "الخوف" بعد "العنف"، وغازي الزغباني مسرحية "الهربة"، كما تواصل النسق المنتظم في إنتاج الجيل الجديد من المسرحيين، مثل صالح فالح وظافر غريسة وسميرة بوعمود ووليد العيادي.

الأمر نفسه يمكن ملاحظته إذا انتقلنا من الفن الرابع إلى السابع، بأعمال جديدة مثل "على كف عفريت" لـ كوثر بن هنية، و"آخر واحد فينا" لـ علاء الدين سليم، و"جسد غريب" لـ رجاء العماري، بالإضافة إلى زخم مواز في الفيلم القصير والوثائقي.

مقابل هذه الاستمرارية، يمكن الحديث عن تراجع نسبي في مجال شهد صعوداً متواصلاً في السنوات الأخيرة، ونعني به الكتابات السردية، مع ملاحظة أن اثنين من المساهمين فيه قد أصدرا في 2017 أعمالاً في مجالات أخرى، إذ نشر الصافي سعيد كتاباً سياسياً بعنوان "المانفستو الأخير"، وأصدر شكري المبخوت دراسة أدبية بعنوان "الزعيم وظلاله"، لم تخل من طرح سياسي وتاريخي، ومنه يمكن تحسّس تدفّق في 2017 على مستوى الكتابة التاريخية، مع صدور أعمال مثل "تونس من الإيالة إلى الجمهورية" لـ نور الدين الدقي، و"الجيش التونسي" لـ محجوب السميراني، و"الصراع اللاهوتي في القيروان" لـ محمد الطالبي، الذي رحل هذا العام، مع وجوه أساسية أخرى في المشهد الثقافي التونسي، مثل الناقد توفيق بكار والناشر الحبيب اللمسي والمترجم صادق قيسومة والمخرجة المسرحية رجاء بن عمار والفنان التشكيلي جلال بن عبد الله والروائي محمد الباردي.

لكن الثقافة في تونس لا يمكن النظر إليها من زاوية الإنتاج فحسب؛ إنها أيضاً شبكة من السجالات وتدافع القوى السياسية والاجتماعية، برز ذلك في الجدل الحاد الذي أثير حول برمجة الكوميدي ذي الميول الصهيونية ميشال بوجناح في "مهرجان قرطاج" الصيفي، ما أثار موجة احتجاج شعبي ضد هيئة المهرجان، وبدت وزارة الثقافة حَكماً تورّط في حسابات معقّدة وتسويات بين ضغوطات شعبية وأجنبية، وقد جرى إيجاد "تسوية" بتنظيم عرض بوجناح ضمن المهرجان لكن بعيداً عن المسرح الرئيسي.

في سياق هذه الحادثة نفسها، برز سجال آخر حول عدم السماح بالعرض للكوميدي الكاميروني الفرنسي ديودونيه مبالا مبالا (المناهض للصهيونية، والممنوع بسبب ذلك من العرض في فرنسا). في هذه القضية، برزت مرة أخرى الحلول الزئبقية، حيث إنه لم يجر منع ديودونيه بشكل مباشر، بل جرت المماطلة في تقديم تصريح بالعرض حتى مرّ موعده المعلن.

تبرز كلا الحادثتين بعضاً من وسائل إدارة الشأن الثقافي في تونس، ويمكن تلمّس ذلك أيضاً في إدارة الخلاف بين ممثلة الوزارة في قطاع النشر، هالة الوردي، واتحاد الناشرين، طوال السنة. خلاف انتهى بشكل غامض بإقالة الوردي والتي صرّحت لاحقاً بأنها كشفت شبهات فساد، ووجدت مماطلة في متابعتها في الوزارة، فيما جرى الرد عليها باتهامها بالمحسوبية وسوء فهم واقع قطاع النشر.

هذه الهزّات، وإن بدت محرّكاتها خارج السياق الثقافي، فهي في النهاية ما يصنع إيقاع الحياة الثقافية التونسية، وفي ما عدا ذلك يمكن القول إنه توجد الكثير من الثبوتية، يعيد إنتاجها الحضور الطاغي للمؤسسة الرسمية، وتوزيعها لـ"الثقافة" ورَيعها وفق منطق قد لا تكون الكفاءة الفنية والمعرفية إلا أصغر عناصره.

يجدر أيضاً أن نلاحظ تأثير الإعلام (التلفزيوني خصوصاً) في تكريس أذواق ووجوه بعينها. وهو عامل آخر يزيد في تعميق الفجوة بين منطقة الثقافة المرئية والرسمية، وعوالم أخرى مشتّتة وموزّعة على كامل خارطة الثقافة، من الكتابة الأدبية والفكرية إلى الفنون التشكيلية والأدائية، وضمنها نجد تجارب كثيرة لا تزال تشقّ طرقاً بعيداً عن الضوء، وربما يكون ذلك أفضل من الوقوف في الضوء مع الخضوع لقواعد اللعبة.

المساهمون