كتالونيا.. عبور ثقافي

03 أكتوبر 2017
خارطة من العصور الوسطى بالكتالانية، "أطلس كاتالونيا"
+ الخط -

عاش خوان غويتيسولو ومات، وهو يسخر من "زواج" قضى على طموح وأحلام شعبٍ بأسره، هو شعبه الكتالاني. ففي لحظة ملتبسة من التاريخ، حدثت قبل خمسة قرون ونصف، تزوج فرناندو ملك أراغون من إيسابيلا ملكة قشتالة، وولد الأساسُ لإسبانيا الحديثة، كما نعرفها اليوم.

الروائي الذي عاش ومات، باسم خوان لا جوان، والذي لم يكتب بلغته الأم أي عمل، قال مرةً، من مقهى في الحيّ الصيني ("الرابال"، اليوم) إنه سيعلن استقلال جمهورية كتالونيا، من هنا (في إشارة دالة إلى حيّ الغرباء والصعاليك والمهمشين في المدينة). "فلسنا ملزمين بنزوة ملكة حمقاء مع ملك أهوج، ثم إن الدول لا تقوم بمثل هذه الطريقة".

يفصلنا عن كلام خوان، عقودٌ من الزمن. عقود جرت في نهرها مياهٌ غزيرة، وكلها دفعت باستيلاد حلم تكوين الجمهورية الكتالانية من جديد. فهذا "الشعب" (كلمة يُعاقب عليها في الدستور الإسباني) يتمتع بشخصية خاصة، متميّزة منذ القرن الحادي عشر. والتفكير بأنه شعب وأمة مستقلة عن إسبانيا، هو تفكير جد قديم.

لقد جرت محاولات إحياء النزعة الاستقلالية الحديثة، منذ القرن التاسع عشر. وجميعُها قُمعت بعنف، وصولاً إلى عهود سبقت فرانكو ورافقته وتلته.

ظلم تاريخي غابر رافق الشخصية الكتالانية على مدار التاريخ. ظلم أوصله فرانكو إلى حدّه الأقصى، بإطلاق النار على من يتكلم الكتالانية في الشارع. (ومع هذا ـ وهذه شهادة ـ: لا يحب الكتالان أبداً أن يظهروا بمظهر الضحية، أو يُتَكلّم طويلاً عن "مظلوميّتهم". يكفيهم هنا التلميح لا التصريح. الإشارة لا العبارة).

انتهت الحقبة السوداء بوفاة صاحبها. ومِن على فراش الاحتضار، اختار الطاغيةُ عودةَ الملكية إلى البلد، مُستقدماً الملك الأب خوان كارلوس، ليكون قائداً ورمزاً للمملكة الجديدة. مُنهياً بذلك آخر حلم للجمهوريين الإسبان بتكوين جمهورية على غرار جارتهم فرنسا.

ما حدث بعد ظهور العهد الديموقراطي (1976) أن القوى السياسية الفاعلة اجتمعت وكتبت دستوراً حديثاً، يُجرّم "الخروج على وحدة البلاد". سكت الكتالان، وقبلوا بتسميتهم "قومية" لا شعباً، في مقابل أن يتعافى الجميع من آثار الدكتاتور.

أربعون سنة مرت على صياغة ذلك الدستور بالتوافق بين الفرقاء. أربعون، لم يُفتح فيها كتاب الحرب الأهلية بعدُ (ويبدو أنه لن يُفتح). أربعون، والفاشيون بمأمن، وبمنأى عن أي حساب. هل نقول إن إسبانيا هي البلد الأوروبي الغربي الوحيد بهذا الشأن؟

مع العهد الديموقراطي، عادت اللغة الكتالانية إلى المدارس والفنون والشارع. وغدت برشلونة كعاصمة لكتالونيا، مزدوجة اللغة، وينتباها تقدير خاص نحو مهاجريها المتكلّمين بالكتالانية.

أما في الأدب خاصة، وفي الثقافة عامة، فثمة الآن ثلاثة أجيال من الأدباء والفنانين لا يكتبون إلا بها، مُضحّين باللغة القشتالية كلغة واسعة الانتشار عالمياً. كل ذلك انتماءٌ لوطن وشعب وأمة، لن يستطيع أحد أن يسرق حلمهم، وإن كان بقادر على إحباطه، ما بين هذه الجولة أو تلك.

من ذلك القرن الحادي عشر، حتى القرن الحادي والعشرين. ألف سنة وهذا الحلم يتكوّن ويتململ كالجنين، في بطونهم. ولا يحظى بولادة طبيعية حتى يوم الناس هذا.

أكتب ما سبق، وفي الذاكرة مواقف المئات من روائيين وشعراء كتالان، كرّسوا نتاجاتهم للغتهم الأم، راضين بخسارة ألا يُترجموا للغات العالم.

ففي اللغة العربية مثالاً ـ وهي لغة كبيرة، على وهَنِها الترجمي ـ لم يُترجم لليوم كتاب واحد منقول عن اللغة الكتالانية مباشرة. لا في الأدب ولا في العلم ولا في سواهما. مع أن هذه اللغة ثرية ولديها ما يُستفادُ منه في تلكم الحقول جميعاً. بينما، في المقابل، تُرجمت العشرات من أعمالنا للغتهم.

هذا جانب ضئيل جداً من جبل الثلج العائم. الجبل الذي لا يرى منه الناس غير جانبه السياسي: المطالبة بالاستقلال فقط. وليتهم يسمّون الساعين لذلك "استقلاليين"، بل كلمة من وزنها وذات رائحة كريهة: "انفصاليين"! وعموماً، ليس هذا الصنيع بالطارىء على القويّ وتابعيه سيان كانوا أقوياء مثله أو ضعفاء ـ كما هو حالنا ومآلنا في إعلامنا نحوهم.

وإذا كانت هرطوقية التاريخ، قديمه وحديثه، قد أوصلت هذا الشعب، إلى أن يُقمع قبل أيام، وأن يؤخذ على يديه وفمه، فإنها مجرد جولة، وحتماً ستعقبها جولات. فإن لم يكن ذلك كذلك في السياسة، فهو كذلك في أدبهم وفكرهم وثقافتهم: يحفرون ويُنقّبون ولا يتعبون. مع حضور البداهة الغائبة: إن الشعوب الصغيرة، طريقها طويل دوماً.

وفي سياق كهذا، تحضرني أغنية شاعر كتالونيا ومغنّيها الأشهر: لويس ياك. يقول:
"بلدي صغيرٌ جداً
حتى أنّ الشمسَ حينَ تخلُدُ إلى النوم
لا تكونُ متأكدةً تماماً
أنها قد رأتْه".

ولا بأس من العودة لاهتماماتنا: الترجمة. ففي مدينة برشلونة صاحبة التاريخ العريق، جاء طلابنا، لأول مرة، أواخر عهد فرانكو، وشاء القدر أن لا يخرج منهم مترجم واحد مِن وإلى الكتالانية. خمسون عاماً بالتقريب هي عمر احتكاكنا بأرض الكتالان وشعبهم. تمخضت عن مترجم شهير من الإسبانية إلى العربية، هو صالح علماني، الفلسطيني السوري الذي عاش سنتين في برشلونة، وعمل في مينائها القديم. سوى صالح، حسب علمي، لا مترجمين أقاموا في المدينة.

الآن، ثمة مترجم يترجم من الكتالانية والإسبانية إلى العربية وبالعكس، هو الكردي السوري كاميران حاج محمود. وننتظر منه وقد أسّس دار نشر صغيرة مع زوجته المترجمة فاليريا ماسياس، أن يترجم عن الكتالانية أكثر. فحصادنا كما نوّهت صفر. ولدي شعور بأنهما معاً سيرفدان مكتبتنا بالقيّم من الأعمال، حتى يأتي مترجمون سواهما ويواصلون الطريق الشاق والوعر: الترجمة عن لغة صغيرة.

بهذا نقترب ثقافياً من الكتالان، ولا تبقى نافذتنا عليهم من باب السياسة العابرة حسب. مع التركيز على أن برشلونة، منذ مطالع القرن الفائت، غدت موئلاً لأحدث موجات الفن، ومكانَ إقامةٍ لعشرات من الكتّاب ذائعي الصيت، منهم الإسباني واللاتيني.

المساهمون