داريو فو.. التهريج في عصر المؤسّسة

14 أكتوبر 2016
(على مسرح ديوز في إيطاليا، تصوير روبرتو سيرا)
+ الخط -

لم يكن داريو فو (1926 - 2016) مخرجاً وكاتباً مسرحياً بارزاً فحسب، بل إن له خمس روايات كذلك، ولعلّ موته يذكّرنا بمسرحيته الأبرز: "موت فوضوي". كان مهرّجاً حقيقياً أيضاً، كما يصفه جون فاولر "بهلوان وروحه مثل بحيرة يستقرّ كل العالم في قاعها. لم تسلم منه الكنيسة، ولا الحكومة، ولا نفسُه سلمت منه، مهرّج لاذع، بفكر يساري، عاش كشوكة في خاصرة السلطة والمتنفّذين".

رحل فو يوم إعلان "جائزة نوبل للآداب"، التي حازها عام 1997، ليَمنح الفرصة لسخرية أخيرة ومميتة، وكأنه حسَم الخلاف بين أعضاء لجنة التحكيم بالموت، هذا العرض الذي لا يمكن رفضه، كما يقول الإيطاليون.

طالما كان فو عارضاً للحياة على المسرح، وعدا عن أن موته يمنحه فرصة أخرى ليطغى اسمُه في هذا اليوم ككاتب راحل، إلى جانب المغنّي والشاعر الأميركي بوب ديلان الفائز بنوبل 2016. الفارق الوحيد أن الأول يشارك في العرض من مشرحةٍ في مدينة ميلانو الإيطالية.

يمكن لـ فو أن يقدّم عرضاً مسرحياً بسيطاً وفوضوياً، هو الذي اعتمد مسرحه خلال حياته على أسس نقدية للاقتصاد والسياسة في إيطاليا منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على أساس نظرية "سخرية الشعب" التي تبنّاها، حيث رأى أن القانون للدولة، والحرية للناس، وأن أيّة سلطوية، بما فيها المؤسّسة الدينية، هي مادّة للنقد الساخر. يقول: "لطالما كان المسرحيون العظماء، منذ أريستوفان وحتى موليير، مشغولين بحالات الجوع الأساسية في المجتمع عبر التاريخ، الجوع للكرامة، للعدالة، وحتى للسلطة".

وبسبب هذه الرؤية المسرحية، منعت أميركا صاحب مسرحية "اللص الفاضل" من تقديم عروضه فيها لأكثر من مرّة في بداية الثمانينيات، مستندةً إلى مقولاته ورؤيته المسرحية، في اعتباره ماركسياً، وهو ما يتعارض مع قوانينها للهجرة والسفر، المفروضة منذ العهد المكارثي، ما قبل الحرب، وما قبل الحداثة.

لكن شهرة فو في إيطاليا منحته فرصة زيارة أميركا عام 1985، برفقة زوجته الممثّلة المسرحية رام فرانكا. وهناك، وبعد تقديمه عرضاً في "مسرح برودواي"، علّق الناقد الأمريكي رون جينكيز بقوله "استخدم فو في مسرحيته مساحيق التجميل ذاتها التي استخدمها هارليكان في القرن السادس عشر، ولم تكن مساحيق كوميدية بقدر ما كانت تُظهر ملامح قاسية وغير مهذّبة، ساخرة بغضب ما يعبّر عن حاجات الإنسان الأساسية للتهريج في عصر المؤسّسة".

ورغم أن كلام جينكيز قاده في النهاية ليُفهم أن فو سخِر من مكارثية قانون الإبعاد الأيديولوجي، حتى حين سُمح له بزيارة أميركا، إلا أن نوبل، قرّرت فعل العكس، واحتواء فو من باب التصالح معها كمركزية ثقافية تمثل أوروبا، فتضلّ علامة لنهاية مرحلة تجاذب أيديولوجي وفوضوي كانت إيطاليا بطلتها في فترة شيوع الأحزاب اليسارية المناهضة لأفكار المركزية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان صاحب رواية "الملاك الحقيقي"، كفوضوي ساخر من مركزية المؤسّسة الثقافية والسياسية الأوروبية، محسوباً على ذلك الطرف.

ولأن قوّة الثقافة تكمن في عدم مركزيتها، فإن السخرية لا يمكن أن تكون مركزية أبداً، ولا يمكن اعتبارها، ولو لمرّة واحدة، مادة روتينية تنضوي تحت جناح مؤسّسة رسمية ما للترفيه مثلاً. هكذا، يُعدّ عمل فو امتداداً للمسرح الساخر في القرون الوسطى، إذ وظّف محتواه الهجائي، وحتى طريقة استخدام مساحيق تجميل ممثّليه، ليؤكّد استمرار مسرح السخرية من المؤسّسة الدينية والسياسية التي كانت، ولا تزال، تَعتبر مسرح السخرية تمرّداً وسحراً وهرطقة.

خلال حياته الأدبية، كتب فو أكثر من ثلاثين مسرحية، وخمس روايات، قُدّمت في أكثر من ثلاثين بلداً، وتُرجمت إلى لغات عديدة؛ من أبرز تلك الأعمال: "حادثة موت فوضوي" التي حقّقت له شهرته الأولى، و"جثّة للبيع"، و"غموض السخرية" التي عُرضت أكثر من ألف مرّة.

عانى فو من وصف النقّاد له بأنه مجرّد هجّاءٍ سياسي، لكنه استمر في صياغة أعماله على أساس كوميديا ملحمية، وأثبت ذلك بتقديمه دراسات عن أعمال برتولد بريخت وموليير وتوظيفهما في أعماله منذ ستينيات القرن الماضي، مقدّماً عروضاً تهريجية مختلفة طاولت المجتمع والسياسة والدين، عدا عن استخدامه موسيقى الجاز بارتجال خلال عروضه، وركونه إلى محاولة خلق إبداع مباشر على خشبة المسرح.

وُلد فو عام 1926. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، هرب من العالم كما قال، واختبأ في علّية البيت حتى انتهت الحرب. بعد ذلك، قرّر أن يعيش الحياة التي أُعطيت له بطريقته، فقضاها يخدش وجه العالم الممثّل في مركزياته، ثقافية كانت أم سياسية، وظلّ على هذه الحال إلى أن قرّرت "نوبل" ضمّه إلى قائمتها، فقال وهو يعتلي المنصّة: "عملي المسرحي، امتداد لما كان يفعله المهرّجون في القرون الوسطى، من نقدٍ للسلطة، ونزع للقداسة التي تزيّن المؤسّسات وتبرّر نزعتها للاضطهاد".

اليوم، يعود داريو فو إلى عتبة نوبل، ليسلخ سحر المراهنات والانتظار، ويعيد توجيه النظر إلى نوبل، من زاوية أخرى.


المساهمون