ليس موت سعيد عقل أمس، هو رحيله بالضرورة. فهذا شاعر في حكم المغادر لعصره منذ سنوات بعيدة، أو بالأحرى كان أغلب عمره المديد - وعياً وفكراً - خارج عصره.
وإن عاش قرابة تسعة عقود من القرن العشرين وعقداً من الواحد والعشرين (1912 - 2014)، فقد عاش قرنه بلغة تكاد أن تكون جاهلية ومزيجاً من أساطير ومآثر وبطولات متخيلة ومختلَقة من خارج عصره.
ويصدق على سعيد عقل القول إنه عاش زمناً خرافياً - بجمالياته الشعرية وخطاياه السياسية - أكثر مما عاش كإنسان وشاعر معاصر. تطوره الشعري توقف مبكراً عند خلطة من الرومنتيكية والبرناسية الباردة والرمزية الفرنسية (هل نهب بول فاليري؟)، وكتب شعراً لا يبدو ذا صلة بالعصر الذي عاشه. شعر مغمّس بالخطابة أو خطابة مغمّسة بالشعر.
امتاز شعره بقدر من الإتقان الكلاسيكي وبقلة الوجدان وصدور قسم كبير منه عن الصنعة. شعر يكاد أن يكون مستقلاً عن "حياة" و"تجارب" صاحبه؛ فـ "رندلى" و"دُلزى" و "أغنار" و "ميرغا-يان" مجرد أسماء نحتها لنسوة ميتافيزيقيات: "لوقعك فوق السرير مهيبٌ كوقع الهُنيهة في المطلق"... "كُوِّنت مِنْ توقٍ إلى الحُسن لا منكِ"... و"أجمل ما يؤثر عن أرضنا أوهامها أنكِ زرتِ الوجود".
ورغم ذلك فإن قصيدة الصانع البرناسي أثّرت في مساحة لا بأس بها من الشعر العربي. ولعل اقتران قصائده بصوت فيروز وألحان الأخوين رحباني أكسبها شعبية، ما كان لقصيدته - وعرة الألفاظ - أن تصلها.
ولا بد من القول إن شعر سعيد عقل الذي غنّته فيروز (بالفصحى - لا قصائده العامية) يجسّد "الجانب الرجعي" - إن جاز التعبير- في الأغنية الفيروزية/الرحبانية. فأغلب قصائده لـ "البلدان" و"المدن" العربية - لأقطار سايكس بيكو عملياً - ناهيك عن بداوتها المتعصبة وتشبّعها بالعصبيات والسيوف والرماح؛ فإنها تمالئ الأوضاع السائدة في ممالك وجمهوريات الخوف؛ وتمجّد دساكر تحكمها دكتاتوريات وأنظمة ثيوقراطية عرف سعيد عقل كيف يطربها.
هو أحد مختلقي الأساطير الذين ضيعوا الحد بين الحلم والجريمة، بين العنفوان والفاشية. فالمسألة لم تقف عند "أرزتين شاغلات الكون". فسعيد عقل أَحد صُيّاغ الأَساطير المؤسسة للبنان الفاشي. وكلمة فاشية هنا محاولة لتوصيف الفكر الذي عاش به، وليس المقصود بها المحمول التحقيري للكلمة. لم تكن الخرافات الفينيقية المغذّي الوحيد لفاشية "حارس الأرز"، فلا يخفى التأثير الفاشي للعهد القديم (التوراة) على تكوينه الإيديولوجي.
القوميُّ السوريُّ السابق والعروبي لفترة قصيرة - كاتب نشيد جمعية العروة الوثقى العروبية - سرعان ما استحال إلى فينيقي عنصري ومسيحي متعصّب وكاره لامتداده ومحيطه العربي والإسلامي. المفارقة أن الزحلاوي الشوفيني الذي يريد "زحلنة لبنان ولبننة العالم"، ليس سوى سوري الأصل من حوران! يميني بأشد ما تكون اليمينية، يرى الفاتيكان أكبر دولة في العالم ويعتبر نفسه "عالماً في اللاهوت". ويكرر كراهيته لشكسبير لأن للأخير سوناتات تشي بميول جنسية "سدومية".
كتلة من التناقضات هو سعيد عقل. الإعجاب بشاعريته الوثنية الوثّابة لا بد أن يقترن بالغضب والاشمئزاز من مواقفه الفاشية. كترحيبه بالغزاة الإسرائيليين عام 1982، وتحريضه على قتل الفلسطينيين في لبنان "على كل لبناني أن يقتل فلسطينياً"، وقبل ذلك دور "أفكاره" ودوره الشخصي عام 1974 في تأسيس الميليشيا الفاشية - العميلة لإسرائيل لاحقاً - المسماة "حرّاس الأرز".
نجد على "يوتيوب" مقطعاً مصوراً من حوار أجراه مراسل التلفزيون الإسرائيلي مع سعيد عقل أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان. نرى سعيد عقل يقول: "ما في خطوتين.. خطوة وحدي، هو إنو يكمّل هالبطل بيغين تنظيف لبنان من آخر فلسطيني. هادا المطلب اللي بدو إياه لبنان، إزا الأمر هادا ما تم، أنا بكون تعيس والشعب اللبناني بيكون تعيس معي".
ويضيف: "أول ما فات الجيش الإسرائيلي على لبنان، كان لازم كل لبناني يقوم يقاتل معو، أنا لو إنو عندي تنظيم حربي هلأ بقوم قاتل مع الجيش الإسرائيلياني وما بخلي الجيش الإسرائيلي. أنا بجريدتي اليوم [ويستعرض نسخة من النشرة التي كان يصدرها آنذاك] وأنا عم بشكر الجيش الإسرائيلي بعنوان "إسرائيل عِنّا"، بهالافتتاحية وأنا عم بكتب أنا مبسوط لسببين. لأنو هالجيش عم بخلصنا ولأنو بيغين عم بخلّص العالم وعم بيسحق راس الحية اللي اسمو الإرهاب. أنا بحكيلك عنو بعدين. بس بقول أنا زعلان لإنو مش نحنا اللي عم بنخلص لبنان مع الاسرائيلياني من هالوسخة اللي اسما العنصرية الدموية الفلسطينية، اللي هي رأس الإرهاب بالعالم".
وحين يسأله المذيع الإسرائيلي، بعربية مكسّرة: "ليه حصل كده.. اللبنانيين ما اشتركوش في العملية؟" يجيبه "شاعر الأرز": "أنا بعتقد إنو في كم سياسي منزوعين [فاسدين] بلبنان، أكترهم بالحكم، هنّي اللي ما خلوا الشعب اللبناني يشترك. الشعب اللبناني بالحرب عمل حرب حلوة ضد الفلسطينية، إنما كيس عرفات مرّات، هادا عامل نصب، عامل ابتزاز هايل ع دول البترول، ومعو شي سبعين مليار، هادا إشترا بالهيومين زعامات بأوروبا وبأميركا حتى تمشي ضدكو، حتى تقول إنو هالجيش اللي جاي يخلّص لبنان هادا جيش غزو. اللي بيقول "جيش غزو" بدو قص راس! [بانفعال شديد] أنا بقوللك باسم كل لبنان هادا الوحيد جيش الخلاص".
اغتيال بشير الجميل فوّت عليه خطبة كان سيلقيها على "جبل الهيكل" في القدس المحتلة أسوةً ببلفور. وكان طَلب بداية أن يلقيها في "الكنيست الإسرائيلي"، لكن ذلك لم يلق قبولاً إسرائيليا كون عقل بلا موقع سياسي في لبنان.
الإعجاب بشعر سعيد عقل يشبه إلى حد ما الإعجاب بفن سلفادور دالي، يرافقه غالباً ذات الامتعاض من طاووسية شخصيهما. مع فارق أن سعيد عقل أقل أهمية من الفنان السوريالي وثانياً أنه (بعيداً عن الدموية في فكره والترحيب بالغزاة) أكثر طرافة وخفّة ظل من دالي!
طريقته المسرحية في الكلام كحكيم إغريقي، اعتباره العربية لغةً ميتة ودعوته إلى لغة لبنانية تكتب بالأحرف اللاتينية، مشاريعه الاقتصادية التي ستجرّ الثراء للبنان وليبيا، إرجاعه لمجد لبنان بخمسين قصيدة تغنّيها نجوى كرم، إصراره على كونه عالماً في الرياضيات، سفاهاته الطريفة في لقاءاته التلفزيونية، إنكاره لمعرفته باسم أي من شعراء النصف الثاني من القرن العشرين، ترداده لعبارات المديح الخرقاء التي قيلت فيه.. كلّها ستذهب أدراج الرياح. المفارقة أن مستقّره الوحيد هو في اللغة العربية، فالفاشي سيذهب أدراج الرياح وسيبقى سعيد عقل في "ديوان العرب" رغم أنفه!