ما يُتذكّر منه وما يُنسى

29 نوفمبر 2014
+ الخط -

قد يكون زهير بن أبي سلمى الشاعر العربي الوحيد، في زمنه، الذي عاش أكثر من ثمانين عاماً ورأى الحياة، في هذه السنّ المتقدمة، تبعث على السأم: "سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم". ثم رأى المنايا تعمل على نحو عشوائي، من تصبه يمت ومن تخطئه يعش ويهرم! ولا ينسى، في معلقته الشهيرة، أن يقدّم لنا عبراً من تلك الحياة الطويلة، أبرزها كراهة الحرب والحض على السلم.

أما سعيد عقل، الشاعر اللبناني الذي رحل أمس عن عامين بعد المئة، فلم يكتب، حسب علمي، عن وطأة السنين وعِبَرها، بل تأسّى، وهو بعد فتياً، على شبابه الذي سيزول: "يوجعني أني سأمضي وشبابي... والأمل". ورغم انقطاعه الطويل عن الكتابة، أو النشر على الأقل، فقد ظل عقل حاضراً في الحياة اللبنانية العامة.

عندما يغفل عنه أبناء "الأيديولوجيا اللبنانية"، ذات البعد الفينيقي الموغل في الحضارة والقدِم، يتذكّره فنانو الكاريكاتير ومقلّدو المشاهير بشعره المنفوش إلى الأعلى، كعرف ديك، وحركات يديه اللتين تجرَّان أزمنة المراكب الفينيقية المبحرة إلى بحار العالم ناشرة الأبجدية والقوانين، إلى لحظتنا الحاضرة، وعندما يغفل عنه أولئك وهؤلاء تتذكره حلقة أدبية صغيرة دأبت على إبقاء شعلته متقدة من خلال جائزته التي كانت تمنح، أسبوعياً، إلى قصيدة يختارها هو، أو بعض أعضاء تلك الحلقة، ولم تكن مكتوبة بـ"اللغى اللبناني" التي دعا إليها، وكتب فيها بعض نصوصه بالحرف اللاتيني، هاجراً الحرف العربي الذي كان، قبل هبَّته العنصرية في السبعينيات ضد الفلسطينيين، من سادته.

فكيف يمكن أن تذكر دمشق، شعراً وغناء، ولا يحضر سعيد عقل وصوت فيروز: "شام يا ذا السيف"، و"غنيت مكة أهلها الصيد"، و"زهرة المدائن"! بل لا يمكن تذكر بعض غزليات فيروز و"وطنيتها"، الفصيحة، من دون تذكّر سعيد عقل، الشاعر الكبير، المتناقض، الذي صعد إلى مسرح الشهرة في العالم العربي (في الديار الشامية خصوصاً) بعلاقته مع صوت فيروز، بل بالقصيدة العربية ذات البناء الكلاسيكي المتين.

بماذا يمكن أن يتذكره ديوان الشعر العربي في القرن العشرين؟ سيتذكره، على الأغلب، بوصفه شاعراً ذا بلاغة ومجاز يمزجان بين الموروث العربي والرمزية الأوروبية، الفرنسية تحديداً. سيتذكره بوصفه صوتاً فريداً في هذا الديوان لم يؤثر في إرهاصات التحديث الشعري العربي ومخاضاته التي أدت الى ولادة قصيدة التفعيلة، ثم قصيدة النثر لاحقاً؛ فهو من الذين دافعوا عن متانة القصيدة وقوة سبكها وهما ما حاولت القصيدة الشعرية العربية الحديثة تجاوزهما والانفتاح على الواقع بكل ما يحفل به من ضعف وتفاصيل يومية عادية.

لقد نُسيتْ لغة سعيد عقل "اللبناني" وهو حيٌّ. ولم تلق دعوته إلى الكتابة بحرفه اللاتيني الذي سماه "الحرف اللبناني الجديد"، فعاد وكتب، هو نفسه، بلغة العرب وحرفهم... وربما ستنسى عنصريته الفجّة ضد الفلسطينيين ويبقى منه عكس ما سعى لأن يكون!

دلالات
المساهمون