مارسيليا
الأربعاء، 27 تموز/يوليو
ذهبنا، أنا وآنيت، عند الظهيرة، إلى كاتدرائية نوتردام دو لاغارد. حاميةٌ مارسيليا. صعد الباص في شوارع ضيّقة ملتوية إلى أن وصلنا إلى الساحة أسفل الكاتدرائية. أشجار مغبرّة تحيط بالساحة. ثلاث حَمَامات ترتكز على غصن شجرة، جامدة لا تتحرّك كالتماثيل في هذه الظهيرة الحارقة. تأمّلت جدران الكاتدرائية التي ترتفع فوق هذه القمّة، عادت إليّ صور مراقد المتصوّفة أعالي الجبال البحرية، من المغرب إلى بلاد فارس... مزار أبي الحسن الشاذلي فوق قمّة جبل التوبة، وأبي عبد العزيز القرشي، شيخ محيي الدين بن عربي، فوق هضبة المرسى المشرفة على الشاطئ الذي سمّاه ابن عربي شاطئ الحقيقة، هناك أقام أثناء عبوره إلى المشرق، وهناك وقع له الكشف الكبير... وكذا مرقد أبي سعيد الباجي، الذي سكن قمّة جبل المنار: كلّهم اختاروا الهضاب البحرية التي تحيط بخليج تونس.
كانت مارسيليا في الأسفل. سقوف القرميد الحمراء والمرتفعات الحجرية التي تحيط بالمدينة. برجُ زها حديد يرتفع هناك قريباً من الميناء، وحيداً مفرداً؛ شاهداً على غربة المثقّف الحقيقي. حضر أبو العلاء؛ أصغي إليه يردّد في عزلته: "ذوو الفضل في أوطانهم غرباءُ/ تشذّ وتنأى عنهم القُرباء".
على امتداد الأفق بحر مارسيليا المشتعل تحت شمس الظهيرة والبواخر العملاقة راسية هناك. ذكّرتني عمارة هذه الكاتدرائية بكاتدرائية القدّيس لويس أعلى هضبة بيرصا في قرطاجنة.
عادت إليّ صور مراقد المتصوّفة أعالي الجبال البحرية
مررنا مع جموع السيّاح؛ أخذتُ صوراً كثيرة للكنيسة من الداخل، صوراً للسقوف المشغولة بالزخارف الذهبية، وقِطعِ الموزاييك الملوّنة. هذه الكنيسة الكاثوليكية نقيض الكنائس البروتستانتية المتقشّفة. هنا الجدران مكسوّة بألواح رخام مختلفة الحجوم، عليها كتابات ونقوش. اقتربتُ فإذا هي توسّلات ونذُر وشكر للقدّيسة لاغارد، كتبها أناسٌ مرّوا بتجارب ومحَن.
أخذت صوراً لهذا اللوح: لوحة صغيرة مربّعة الشكل، كُتب عليها "بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 1972، الشكر لسيدة لاغارد التي نجّت ابننا". تبيّنت، وسط هذه الألواح، صورة كبيرة لمركب بحّارة أنقذتهم سيدة لاغارد من عاصفة عاتية في المحيط الهندي سنة 1901. وحذوها لوحة أخرى رخامية يقدّم فيها ثلاثة جنود الشكر لسيدة لاغارد، إذ أنقذتهم في 6 كانون الثاني/يناير 1943، من حصار قرب مدينة القيروان. أمّا اللوحة الكبيرة التي لفتت نظري فقد كُتب عليها بلهجة توراتية درامية، بل باللفظ التوراتي: الذكرى الخمسون للخروج الجماعي (Exode) كما هو خروج بني إسرائيل.
إنما بعد الخروج اتّجهت أنظارهم إلى كنيسة سيدة لاغارد، وإلى هنا جاؤوا يصلون متوسّلين الأم الطيبة، أن تشدّ أزرهم في هذه المحنة بعد مغادرتهم شمال أفريقيا، أرض سانتا كروز والقدّيس أغسطينوس، أرض ميلادهم وجزائرهم الحبيبة.
هكذا هي صورة استقلال الجزائر في التصوّر الشعبي الفرنسي.
■ ■ ■
آرل
الخميس، 18 آب/ أغسطس
أيّامٌ مضت في آرل... كثير من الكآبة والضغط النفسي، ولم أنتبه إلّا قليلاً للموسيقى في كلّ أزقّة آرل الممتلئة بالسيّاح من كل الأجناس، يهيمون في الشوارع والزواريب ومنعطفات هذه المدينة التي احتفظت بنكهة القرون الوسطى. فتيات وشبّان بملابسهم الصيفية الهفهافة والأوشام التي تغطّي أجسادهم، أطفال يطيرون بعجلاتهم كالفراشات الملوّنة حول نافورة ساحة الجمهورية، نساء في العشرينيات يدفعن عربات أطفالهنّ الرضّع كعلامة على عودة ظاهرة الزواج المبكّر وقيَم العائلة التي حاربها جيل ثورة أيار/ مايو 1968، الذي بدا رجاله ونساؤه، المحافظون على قيافتهم، على صورة جورج براسانس ــ بالشوارب الكثّة، والشعور الطويلة، والنظرة الغاضبة ولكن الخامدة ــ مثل الأسود الهرمة يتحرّكون في عالم غريب لم يعد عالمهم.
سيّاح يابانيون يقفون في ساحة الفوروم لأخذ صور مقهى فان غوخ الأصفر الذي حافظ أصحابه على واجهته الخارجية كما هي في لوحة فان غوخ الشهيرة. لا أحد التفت إلى نصب الشاعر، صاحب جائزة "نوبل"، فريديريك ميسترال، مؤسّس "متحف أرلتان" الذي حفظ فيه كلّ ذاكرة المدينة وتراثها الشعبي، وعاداتها، وصور حياتها اليومية في سابق الأزمنة...
رجلٌ يفكّ رباط حصانه على الرصيف، كما في أفلام الويسترن
آرل، ككثير من مدن أوروبا العجوز، تحوّلت بأكملها إلى متحف يزوره الناس. في حديقة القصر الإقطاعي، قريباً من حمامات قسطنطين، جلس ضيوف مهرجان الفوتوغرافيا يستريحون ساعةً من المشي وحرارة الشمس. سمعتُ لغطاً بالألمانية والإيطالية والروسية، أو هكذا بدا لي، أو ربما هم أوكرانيون... عائلة كبيرة تحتلّ ركناً من الحديقة بسياجها الذي يعود إلى القرن التاسع عشر؛ بدا المشهد كما في لوحة لأحد الرسّامين التعبيريين، مانيه أو رُنوار. والرجل الذي يمسك كلباً صغيراً من حبل؛ كلب أقل حجماً من قطّ... قالت آنيت: هي كلاب مهجّنة يأتون بها من المكسيك ومن أماكن أخرى في أميركا اللاتينية. تشعر وأنت تتطلّع إليها أن الرجل هو الممسوك إلى كلبه، وليس العكس، وتقول غلوريا أنا أسكن عند قطّي حنبعل، هو سيد البيت وسيد الشارع، إذا جلس وراء زجاج النافذة يتوقّف كلّ المارة ليأخذوا صورةً له...
ظللت أفكّر: ما هو سر هذه العلاقة بالحيوان البيتيّ؟ أي عطب نفسي أو فراغ جعل الناس مشدودين إلى حيواناتهم بهذا الشكل المَرَضيّ؟
في كل ركنٍ ثمّة فرقة موسيقية تعزف من الفلامنكو إلى اللحون الشعبية أو القطع الكلاسيكية... والشمس مائلة فوق آرل، ضوؤها وظلالها عبر فراغات عقود المسرح الروماني تُوحي برسوم جيورجيو دي شيريكو. وذاك الرجل، شبيه أبطال أفلام الويسترن، يفكّ رباط حصانه على الرصيف حذوَ المقهى قرب نبع بيشون، يمتطي حصانه في حركة سريعة فوقَه وسط الشارع، كما لو كان أحد أبطال الويسترن يغادر القرية... هل الزمن توقّف؟ أم أنها مخيّلتنا التي هي جوهر وجودنا وحقيقته العميقة (إذ كلُّ معرفةٍ هي تصوُّرُنا لها)؟
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام