ويلفريد كانتويل سميث.. مناقشة العلاقة بين الإيمان والحقيقة والتقاليد

28 ديسمبر 2024
إحلال مفهومَي "التقليد" و"الإيمان" مكان "الدين"
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ينتقد الكتاب تعزيز الغرب لمفهوم الأديان كمجتمعات خلاص متنافٍ، ويقترح نقلة مفاهيمية لتجنب مشكلات التفكير القديم حول انتماء المتدين إلى مركب ديني واحد.
- يوضح سميث أن الحياة الدينية تتكون من الإيمان الداخلي والتقاليد الخارجية، ويقترح استبدال مفهوم "الدين" بمفهومي "التقليد" و"الإيمان" لفهم أعمق للظواهر الدينية.
- أثرت أطروحة الكتاب في فلسفة الدين واللاهوت والأنثروبولوجيا، داعيةً لإعادة صياغة المفاهيم الدينية لتحرير الناس من الكيانات اللاهوتية المتضادة.

ضمن سلسلة "ترجمان"، صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، كتاب بعنوان "معنى الدين وغايته" ‏‎لأستاذ علوم الأديان، والمدير المؤسس لـ"معهد الدراسات الإسلامية" في "جامعة مكغيل" بمونتريال، الباحث الكندي الراحل ويلفريد كانتويل سميث (1916 - 2000)، وترجمة عمر سليم التل. 

يتضمّن الكتاب ثمانية فصول، خصّص الأول منها للمقدّمة، والأخير للخاتمة، ويناقش في الفصول الستة المتبقية حياة البشر الدينية ومفاهيمهم الموروثة الخاطئة عنها، التي يتحمّل الغرب في المئتَي عام الأخيرة قسطاً وافراً من المسؤولية في وجودها، مقترحاً العمل الجادّ على تخليص الناس من فهم اللاهوت بوصفه كيانات متضادة،‎ وفتح الباب لمناقشة العلاقة بين الإيمان والحقيقة والتقاليد الثقافية.

في علم اجتماع المعرفة، يتأثر إدراك العالم المحيط عميقاً بالمفاهيم المستخدمة في انتقاء الأحداث ‏وتنظيمها واختيار معنى مناسب لها تُعبّر عنه اللغة‎. وفي قلب العالم المعاصر هناك حياة دينية‏ يوضّح عالم اللاهوت والكاتب الكندي ويلفريد كانتويل سميث أنّ ‏الشبكة التي تُرى من خلالها ليست الطريقة الوحيدة لإدراكها، فيقترح نقلةً مفاهيمية وإدراكية لتجنُّب كتلة مشكلات ‏مستعصية أحدثتها طريقة التفكير القديمة‎‎‏، المتمثلة في ضرورة انتماء المتدين إلى واحدة أو أُخرى من هذه المركّبات الدينية‎، ما ولَّد تسليماً لدى مسيحيّي الغرب بأنّ‎‏ المسيحية حقّ، وأنّ الأديان الأُخرى دونها. وهي مسلَّمة تطرح تساؤلات من قبيل: هل قَصَر الله، إن كان إلهَ البشرية ‏جمعاء، الحقَّ على سلسلة بشرية واحدة أو أقلّية مختارة؟ ولماذا تعدّدت في كنف الإله الواحد الحياة ‏الدينية للبشر عبر التاريخ؟

لم يأت الردّ على تلك التساؤلات مباشراً، بل ظهرت نظريات تقول بـ"إمكان" وجود ‏إيمان ضمني لدى متديّني ‏‎"‎الأديان الأُخرى‎"‎ واعتبارهم "مسيحيّين مجهولين" قد ينالون الخلاص ‏بالطريقة ‏‎"‎العادية‎"، أي‎‏ المتاحة ضمن أديان العالم، وليس بالطريقة المتاحة في الكنيسة‎،‎‏ ‏وهي نظريات تُبقي صفة "المتديّن" غير ‏المسيحي مؤقتة إلى أن يلقى المسيح: فهل تحتوي تعاليم الكنيسة وحدها على كلمة الله الفاصلة بخصوص ‏الجنس البشري، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؟

نقد تعزيز الغرب لمفهوم عن الأديان بوصفها مجتمع ‏خلاصٍ متنافٍ مع غيره

تُبيِّن أبحاث كانتويل سميث بالشواهد التاريخية تعمُّدَ الغرب خلال المئتي عام الأخيرة فقط تشجيعَ مفهومٍ للأديان مؤدٍّ إلى اعتقاد الناس أنفسَهم أعضاء في مجتمعِ ‏خلاصٍ متنافٍ مع غيره.‎‏ ويوضّح أن هذا الفهم للدين لم يكن معروفاً قبل القرن الثامن في كلّ المجموعات الدينية، ثم أظهر بعد تحوّل فكر الإصلاحيين الكبار خلافاتٍ لاهوتيةً حوّلت ‎المتدينين إلى‎‏ مجموعات أيديولوجية متعارضة‎‎‏ وبروز ظواهر "الإسلام" و"الهندوسية" و"المسيحية" ‏و"البوذية"، وغيرها، في القرن ‏التاسع عشر، بوصفها منظومات لكل منها تاريخها‎.

ويمثّل الإسلام حالة "خاصة" في أطروحة سميث هذه، وبوصفه خبيراً بهذا الدين يخصّص له فصلاً بعنوان "حالة الإسلام الخاصة"، يلاحظ فيه أنّ معارضي سواه من الأديان‎ يعاملونها بروحية ‏نِزَالية، بينما لم يطبق الناس في الشرق هذا على إيمانهم، أما في الغرب فبرزت هذه النزعة بعد صعود النزعة الريبية (‏‎Skepticism‎)‏ والإلحاد (‏‎Unbelief‎)‏ في العصر الحديث‎.‎

يقول سميث بجانبين للحياة الدينية للبشر: الداخلي وهو الإيمان، والخارجي وهو التقاليد. ويتمثّل الإيمان ‏‎لديه في مشاعر الفرد أو المجموعات تجاه المتعالي الإلهي بوصفه الشخصي ‏أو غير الشخصي (واحد، أخلاقي، رحيم... إلخ)، من حبّ وخشية ورجاء ‏وخوف وعبادة، وغير ذلك،‎‏ في مشاركة حيوية مع ما يَظُنّ أنه أعظم وجود حقيقي ولكن غيبي، وهو "الله". وهنا تبرز لدى الكاتب أسئلة أساسية، هي: هل الإيمان مبرّر أم وهمي؟‎‏ وهل هو استجابة لحقيقة ‏متعالية حقّة أم أنه ناجم عما في الوعي البشري من رجاء وخوف؟ وهل أوجده الإنسان ليعوِّض عن ‏وضعه الاقتصادي أو السياسي؟ وهل أنشأه ليستمدَّ منه الشجاعة عند الموت؟ أسئلة ‏صادقة لتحديد ‏المنطقة المشكّلة تاريخيّاً التي يسمّيها المؤلّف "التقليد المتراكم"، المختلف عن الإيمان الشخصي الباطني والواقع ضمن اختصاص التأريخ، والمؤلَّف من الأطر الثقافية ‏المعبَّر بها عن الإيمان والمكونات اللاهوتية لمجتمع بعينه‎.‎‏

ويناقش في فصل بعنوان "الإيمان" المعتقدات واللاهوت، ويرى أن اللغة الدينية ‏ في الصلاة والنبوّة والوعظ والتبشير والاعتراف، وغيرها، هي تعبير عن الإيمان‎، أما لغة اللاهوت ‏فتُعامِل اللغة الدينية بوصفها بيانات تنتظر مَن يؤوِّلها ويحوِّلها إلى نظريات منهجية‎، ويذهب إلى أن‎‏ التقليد المسيحي خضع لتطور هائل عبر القرون، وقد لا يتمكن مسيحيٌّ تشكّل لاهوته ضمن تقاليد روما القرن الثاني ‏من التعرّف إلى حالة نظيره لدى مسيحيّي نيويورك اليوم على سبيل المثال‎،‎‏ والأمر مشابه في ما يسمى "أدياناً"، وحتى بين التقليد الإسلامي في شبه الجزيرة العربية في زمن النبي وبين ذلك الموجود في مجتمع صوفي في غرب أفريقيا ‏اليوم، وهكذا.

أثّرت أطروحة الكتاب في عدد من حقول فلسفة الدين وعلماء اللاهوت والأنثروبولوجيا

تتمثّل تأثيرات اختبار سميث لإعادة صوغ المفاهيم في تخليص الناس من مفهوم الكيانات الاجتماعية اللاهوتية المتضادة، بهدف تحريرهم من ‏السؤال عن الدين الحقّ، وتتمثل أيضاً في تحديد الإيمان الداخلي والخبرة الشخصية والمجالات الإشكالية الفلسفية، ‏‎إضافةً إلى تخليص ‏التقاليد المتراكمة من وهم أُحادية كيانها، ما يتيح التنوّع داخل كل تقليد‎. وكلها تأثيرات‎ تفتح الباب لمناقشة العلاقة بين الإيمان والحقيقة والتقاليد الثقافية، وهي علاقة ناقشها المؤلّف في أكثر من كتاب سابق له.

أثّرت أطروحة الكتاب في عدد من الحقول المتنوعة، وفي الكُتَّاب الأصغر سنّاً، المتخصّصين في فلسفة الدين وتاريخ الأديان وتاريخ التقاليد، وفي علماء اللاهوت، المسيحي منه واليهودي، وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، وفي مفكّري البوذية والهندوسية والإسلام المحدثين في المجتمعات الآسيوية، وغيرهم‎.‎‏ ومع أنه يرى أنّ على البشرية بصفة عامة مواصلة مناقشة قضايا ‏الدين، الذي تتجذّر مصطلحاته بقوّة في أدبيات أي أُمّة، فإنه يرى عدم إتاحة ذلك لأي شخص من دون فهم عميق لطابع اللغة التي كُتب بها الدين، والذي يلبِّس المفاهيم في كثير من ‏الأحيان‎.‎‏

كتاب كانتويل سميث معنى الدين وغايته‎ حاجةٌ‎‏ للباحثين والعامّة على حدّ سواء‎،‎‏ فهو يُمكِّنهم بطريقة جديدة من إدراك ظاهرة الدين بغير العدسات الفكرية التي شكّلتها ثقافتهم الخاصة، والتي تعكس الدين بوصفه مركّبات لاهوتية وتاريخية سُميت المسيحية واليهودية والإسلام والهندوسية والبوذية والسيخية والزرادشتية والكونفوشية ‏والشنتوية والطاوية، وغير ذلك. 

وقد تَمَثَّلَ مسعاه للوصول إلى هدفه في ابتكار أداة مفاهيمية تمكّن العقل البشري من فهم الحياة الدينية للإنسان في التاريخ حتى الآن بدقة، والمشاركة فيها على نحو أشد ذكاءً يتمثّل في إمكان تصور الناس ديناً بعينه على نحو مُجزٍ أكثر، وفي إسقاط معان كثيرة لكلمة "دين" وجعل الدفاع عنها بعد الطعن فيها غير ممكن، كإعادة تأهيل مصطلح "تقوى" على سبيل المثال، متكهِّناً بأن هذه المصطلحات ستختفي من الكتابة الجادة في غضون 25 سنة وتتيح باختفائها للورعين إيماناً أصدق وللباحثين فهماً أوضح للظواهر الدينية، ومقترِحاً إحلال مفهومَي "التقليد" و"الإيمان" مكان "الدين"، لأن "التقاليد الدينية" في نظره ليست حقيقة ميتافيزيقية، بل مجالات تاريخية يجب استكشافها، وهو يناقش في كتابه منها مجالاتٍ ثلاثة: دراسة الحياة الدينية للآخرين، والتواصل بين الجماعات الدينية، وموقف المؤمنين، مخصِّصاً الجزء الأكبر من النقاش لما بين المسلمين والمسيحيين، ومعترفاً بأن المتدينين الآخرين لا يسبّبون له قلقاً، لأن الهندوس والصينيين سيجدون تحليله مقبولاً، وأتقياء اليهود لن يجدوا صعوبة في تطبيق الأطروحة على وضعهم الخاص.
 

المساهمون