وداعاً يا أمّ أيمن. منذ بدأت الحرب، أرنّ على أولادك وبناتك، وما من أحدٍ يفتح. كل مرّة عن طريق الواتساب، أرى إشارة "يتّصل"، ولا أرى إشارة "يرنّ". أولادي يقولون: "عمّتنا رُشديّة يا مِش فاتحة خط، يا إمّا مفيش نِت".
كل يوم أحاول مراراً، معك ومع كوثر ومع اعتدال (أُخْتينا في مخيم المغازي)، والنتيجة ذاتها. أوّل من أمس، فقط، فاجأتني رنا ابنة كوثر بأحلى مفاجأة: رنّت عليّ واتساب.
كنت في نصف ساعة القيلولة (التي كانت قبل الحرب ساعة كاملة)، فقمت متحفّزاً كالملسوع بالانفعال، وعرفت منها ومن أمها، أنهما في خيمة على حدود رفح، وباقي القبيلة لم تبرح المغازي، وأنك يا أخت، بقيتِ مع أولادك وبناتك وأحفادك العشرين. تُرى كم صار عددُهم، وأنا غائب عنهم منذ دهر طويل؟ عرفت أنكم بقيتم في البيت، ولن تتركوه "ايش ما يصير".
غضبت عليكم، وحاولت الاتصال بأيمن، لأخبره بهول ما يحدث لجباليا المخيم، لكن.. هيهات. قلت أُنبّهكم إلى ما تجهلون مع أنّ وقت النزوح مضى وانقضى.
ستظلّين في الذاكرة علامةً على قوّة المرأة اللاجئة
واليوم (الثلاثاء) مساءً، جاءني ولدَاي أحمد وأدونيس، ليأخذا بخاطري، والعجيب أنّ العينين لم تجْهشا بالدموع. أعرف أن وقتها آتٍ، لا محالة.
هل تعلمين؟ قصّا عليّ قصة لم تدخل في عقلي. قالا إن بناتك وأولادك المتزوجين، تركوك وحيدة في البيت، ونزحوا إلى خانيونس ورفح، لأنك "ثقيلة الهِمّة"، تحتاجين إلى كرسيّ متحرّك، محالٌ الحصول عليه في هذه الظروف
معقول هالحكي يابا؟ بدكو تضحكو عليّ بهالعمر؟
كيف تركوها وحدها، في بيت من ثلاث طبقات، ينعى فراغ ساكنيه الذين لا أعرف كم عددهم، بالضبط؟ كيف وأولادها وبناتها وأحفادها متعلّقون بها، فهي أبٌ لهم وأم، والسندُ، بل آخر طوبة من الجدار الأخير؟ أمانة: هل حصل لهم ما حصل لها؟ قولا لي ولن أنهار، فالموت كلمة رائجة في هدول اليومين.
أصرّ الأولاد على روايتهم، لكنّ حدْسي لا يكذب: أصلاً أنا قلِق عليهم منذ بدء المجزرة، وبالخصوص بعد ما نُكّلَ بمخيم جباليا على نحو استثنائي، فللعدو معه ثأر قديم، من أيام انتفاضة 1987، حين انطلقت منه شرارةُ تلك الملحمة الكبرى.
حاولت بعد خروجهما، الاتصال بخانيونس ودير البلح والنّصيرات، علّي أعرف الحقيقة. لم يرنّ أي رقم. وها أنا، أضرع لصاحب القبّة الزرقاء، في نقطة ما من شساع الكون: بعضَ البلاء يا كلّيَّ القُدرة، ولا كلّه.
بعض البلاء، وحقكَ إن عددهم كان قبل رحيلي، يفوق العشرين.
اُجبر بالخاطر يا جابر الخواطر ـ مع أن مُناديك يعرف ويغضّ من الخجل أو يغصّ به: لا أحد في القطاع على رأسه ريشة.
ستظلّين في الذاكرة يا أخت الرجال، يا رائحة نجد
أما أنت يا أخت الرجال، يا رائحة نجد: أيتها الكنعانية الأصيلة، وقد خرجتِ منها جنيناً في بطن والدتك، فستظلّين في الذاكرة، علامة على قوة المرأة اللاجئة، وجَلَدها في البلواء.
لكم واجهتِهم بعصاك كاللبؤة تدافع عن أطفالها الزغابا زمنَ انتفاضة 1987، حين كانوا يدهمون البيوت من غير أبوابها.. وإن أنس، فلا أنسى يوم بطحتِ جندياً منهم، مثقل بعتاده الحربيّ، على أرضيّة حوش الدار المبلّطة بالإسمنت، شأنك شأن الكثير من أمهاتنا العظيمات. الرحمة لروحك، والبقاء لأولادك وبناتك وأحفادك وكل فرد من شعبنا.. يا رب.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا