"وجوه اللانهائيّ: الأفلاطونية المحدَثة والشعر عند مُلتقى أفريقيا وآسيا وأوروبا" عنوانُ كتابٍ جماعيّ جديد أصدرته "الأكاديمية البريطانية" في "كلّية الدراسات الشرقية والأفريقية" (سواس) بلندن. وخلال جلسةٍ لإطلاقه عُقدت في المدينة بداية هذا الشهر، أشار الأكاديمي الألماني شتيفان شبيرل، الذي شارك في تحرير الكتاب إلى جانب الأكاديمي يورغوس ديديس، إلى أهمّية الموضوع الذي يتناول سيرة تنقُّل الأفكار والأشعار من حضارة إلى أُخرى، منذ القديم وحتى اليوم.
يعود مفهوم الأفلاطونية المحدَثة، أو الجديدة، إلى الإمبراطورية البيزنطية التي شهدت إحياءً لأفكار أفلاطون، التي ترتكز على فكرة رئيسية مفادُها أنّ الواقع الذي نراه ليس سوى مستوى لاحق لمستويات باطنية أعمق وأهمّ؛ حيث تتدرّج هذه المستويات حتى تصل إلى الإله الخالق الذي يُمثّل البهاء المطلَق. ومن هنا، فإنّ الأفلاطونية الجديدة تعبيرٌ عن البحث المستمرّ عن الجمال والكمال اللذين يُجسّدهما الخالق الأعلى الذي "ليس كمثله شيء"، كما تقول الآية القرآنية.
ثمّة فكرةٌ رئيسية أُخرى ترتكز عليها الأفلاطونية الجديدة؛ هي عجز اللغة. والعجز هنا يتمثّل بعدم قدرة اللغة العادية على تمثيل الحقيقة المطلقة واللانهائية التي يمثّلها الإله، وآيات الجَمال اللامتناهي المُتجسّدة في ما خَلَق. ومن هنا، فإنّ الشعر هو الوسيلة الأمثل للتعبير عن آيات الجَمال وتجسيدها، والفَناء في سبيل التماهي مع آيات الله على الأرض، ومع عالم الباطن والحقيقة المطلَقة. الشعرُ، بهذا المعنى، هو المعراج الأمثل للروح في ملكوت لا ينتهي، وهو يصبّ في نهر الوحدانية الإلهية التي تتعدّد بتعدُّد التعبيرات والصُّوَر الشعرية.
شوّهت السياسة تقاليد فكرية وفنّية كانت تجول العالم بسلاسة
يُوضّح شبيرل كيف أنّ هذه الأفكار انتشرت من حضارة إلى أُخرى، بدءاً من اليونان، مروراً بالحضارة الرومانية - اللاتينية، ثمّ الإسلامية؛ فقد جُسّدت هذه الفكرة في أشعار وأفكار ابن سينا وابن عربي والسهروردي وغيرهم، كذلك انتقلت إلى الشعر العربي واليهودي في إسبانيا، وغذّت بعد ذلك الحضارة والشعر الفارسيَّين، ثمّ الشعر العثماني، وصولاً إلى العصر الحديث في نصوص شعراء عرب؛ مثل أدونيس الذي مثّل هذه الأفكار ونظّر لها في كتابه "الصوفية والسريالية".
ويُعطي شتيفان شبيرل أمثلةً أُخرى مِن الشعر العربي الحديث، فيذكُر قصيدةً للشاعر المصري محمّد عفيفي مطر، يُصوّر فيها الضيق والضنك اللذين تتّسم بهما حياة الأرض، في مقابل الفناء والسعة والخلود والجمال اللامتناهي في عالَم الباطن والغيب.
لم تتوقّف هذه الأفكار عند الحضارة الإسلامية، بل انتقلت إلى الشعر الأوروبي. نلمس ذلك، مثلاً، لدى الشاعر الألماني فريدريش فون شيلر، مِن خلال قصيدته "قصيدة الفرح"، التي لحّنها بيتهوفن في سيمفونيته الشهيرة بالعنوان نفسه، وأصبحت في ما بعد النشيد الرسميّ للاتحاد الأوروبي.
اللافت في هذا الكتاب هو كيف أنّ فكرةً عن وحدانية الروح الإنسانية ووحدانية الخلق والخالق أصبحت جزءاً من التراث الفكري والشعريّ لدى أُمم كثيرة، وكيف أنّ الحضارة الإسلامية، في فترةٍ ما، كانت الجسر الأقوى لحمْل هذه الفكرة ونشرها، لتحيا في شعر العرب وغيرهم حتى اليوم. وأهمُّ مِن ذلك كيف أنّ السياسة أفسدت كثيراً وشوّهت تقاليد فكرية وفنّية كانت يوماً ما تنتقل بسلاسة بين أُمَم تجمعها روح واحدة، وتتلهّف للخلاص من حياة العجز والصراع على الأرض.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن