ينشغل النقد الأدبي بموضوع المدينة والرواية، فيأخذ حيّزاً واسعاً من الدراسات والأبحاث والمؤتمرات والملفّات في المجلّات، بوصفها المهد الذي شهد نشأة هذا النوع، وأثّر في تطوره. وينشغل النقد أقلّ من هذا بكثير بموضوع الريف والرواية، في محاولة لتتبُّع الكيفية التي قَدّمت فيها الرواية العربية، أو غيرها، الريف روائياً.
وإذا كانت الرواية قد أخذت تقاليدها من المدينة حقّاً، أي ما يتعلّق بالتنوّع الكلامي، وسيادة مفهوم الديمقراطية في علاقة الروائي بشخصياته، ومنح النصّ الاستقلالية الضرورية لخلق عوالم خاصّة بعيدة عن الجمود، فإنها لم تختصّ بالمدينة وحدها، على عكس ما يشاع. أو لنقلْ إنّ بنت المدينة هذه، وهي تنتسب إليها بالفعل، قد أثبتت أنها قادرة على فهم أهل الريف وأحوالهم، وأشكال عيشهم المشترك، وصراعاتهم، بقدر ما أكّدت أنها قادرة على التجوّل في عالم المدينة من دون أيّ قيود يمكن أن تكبّلها وتُرغمها على الاختصاص.
فإذا كان على رواية المدينة أن تقدّم شخصياتها بعلاقاتها المميزة، وأجوائها الغنية، والطبائع المستمدّة من روح سكّانها وأشكال العلاقة فيما بينهم، فإن على رواية الريف أن تكون تجسيداً لعلاقات الناس في الريف، وهي علاقات محكومة بجملة من القوانين والأعراف والتقاليد المختلفة عن تقاليد وأعراف المدينة.
لكنْ لا يكفي أن تكون المدينة مسرحاً لأحداث أيّ رواية، كي تمنحها هُويّة المدينة. فلا علاقة لرواية "اللصّ والكلاب" بالمدينة، بل إن مفاهيم سعيد مهران عن المرأة، ومعظم الجرائم التي ينفّذها، تكون مدفوعة برغبته في الثأر من زوجته وعشيقها ومن رؤوف علوان، وهو مفهوم بدوي وريفيّ، لا مديني. وقد أراد نجيب محفوظ أن يقدّم لنا أنماطاً من الشخصيات يصادف أنها تعيش في المدينة، دون أن تكون محكومة بعلاقاتها المدينية. بينما نرى أنّ من الصعب انتزاع "الثلاثية" من المدينة، أو انتزاع المدينة منها، بل من الصعب فهم طبيعة الشخصيات وعالمها النفسي والوجداني من دون فهم حياة القاهرة الداخلية، أو حياة تلك المناطق والأحياء التي سُمّيت أجزاء الثلاثية باسمها، من مدينة القاهرة.
لا يكفي أن تكون المدينة مسرحاً لأحداث أيّ رواية، كي تمنحها هُويّة المدينة
كذلك إن أحداث "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، مثلاً، تقع في الريف، غير أنها ليست رواية عن الريف، إلّا إذا اعتبرنا أنه السبب، بما يعانيه من الركود وتفاهة الحياة، فيما آلت إليه الحال التي أودت بحياة إيمّا. ورواية "مئة عام من العزلة" ليست عن الريف، بل عن المصير البشريّ كلّه. أمّا رواية يحيى الطاهر عبد الله، "الطوق والأسورة"، فيشكّل الريف بعاداته وتقاليده الجارحة مركز الثقَل في مصير الشخصية الرئيسية.
بينما تعيش شخصيات "خالتي صفية والدير" لبهاء طاهر في الريف، من دون أن يكون لعلاقات الريف شأن في مصائرها، وفي طرائق عيشها. فالغاية من الرواية ليست أحوال الريف، بل دفع العلاقات البشرية نحو فهم أكثر إنسانية ورقياً بعيداً عن التعصُّب الديني.
لا يحسم المكانُ وحده هُويّة الرواية، وخاصّة في تلك المناطق التي لا تزال تتقاطع فيها أعراف الريف بتقاليد المدينة، واللافت أن تكون الرواية هي التي تمنح المكان الهُويّة، لا العكس.
* روائي من سورية