استمع إلى الملخص
- يركز الحوراني على استرجاع الثقافة العربية في الفن باستخدام الخشب كوسيط، مستفيداً من خصائصه الطبيعية لإنتاج أعمال تعكس الروح العربية، مع التأكيد على تأثير نوعية الخشب على العمل الفني.
- يشير الحوراني إلى تحديات التكنولوجيا في الفن، مؤكداً على أهمية اللمسة الإنسانية والعاطفة، مفضلاً العمل اليدوي الذي يعكس الجوهر الحقيقي للفن.
رغم أنّ الاشتغال الفنّي في الحروفيات العربية غالباً ما يجيء في سياق صُوفي "مُروحَن" يُترَك فيه الأمر لتذوُّق الحواس وتراسُلها، من غير الاحتكام الصارم للمنطق الرياضي، إلّا أنّ المغامرة التي يُجرّبها الفنّان اللبناني جوزيف الحوراني (1974)، في معرضه "تناصّ"، الذي افتُتح في السابع من الشهر الجاري، ويتواصل في "غاليري صالح بركات" ببيروت حتى الحادي والعشرين من الشهر المقبل، تقول كلاماً آخر، حيث نرى المعماري والمخطّط الحضري يأتي بكامل ثقله الأكاديمي ليؤكّد "هندسة" الحَرف قبل "نحته".
مع ذلك، يُؤثر رئيس "هيئة المعماريين العرب" التقديم لمعرضه بمجموعة أعمال تخطيطية تعود لعام 2012 تستقبل الزائر في الطابق الأوّل، قبل أن يدلف إلى الصالة السُّفلى، وهي عبارة عن استذكار لـ"غوفدير"، أو جان غوفديرليان (1923 - 2016)، النحّات والرسّام اللبناني من أصل أرمني المعروف باشتغالاته الطوطمية في النحت، والذي عمل مع طُلّابه في "الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة" (ALBA) على رؤية فنّية خاصة في النحت والتشكيل.
تكمن رمزية المعرض في استرجاع ما للثقافة العربية من حضور وفاعلية
"أنا أهتمّ جدّاً بالخطّ العربي، بغاية الانتقال به من المستوى الحِرَفي إلى الفني"، يقول الفنّان لـ"العربي الجديد"، ويتابع: "هذا التحدّي اليوم صعبٌ إنجازه، خاصّة أنّ مُقتني الفنون قلّما يتقبّلون هذه الفكرة. لذا ما أحاول فعله دائماً هو تحويل الحِرْفة إلى فنّ كامل. وما أقوم به في هذا المعرض أنّي أحفر قطعة الخشب من جهتين: الأُولى تتضمّن العبارة التي أُريد نحتها، والثانية بجوارها تتضمّن أيضاً العبارة ذاتها. أمّا الجهتان الأُخريان فتتشكّلان من نحت الأُولى والثانية، أي أنّهما ناتجتان عن الفراغ، أو لنُسمِّه 'الفرصة السعيدة'، التي تنجم عن عملية تصميم غير قصدية، إن جاز التعبير، وهنا أعمل على هذه الكتلة الجديدة".
وعلى عكس المعرض الاستعادي الذي قدّمه عام 2021، لا يُركّز الحوراني هذه المرّة على الطوطمية، بل يُدقِّق في النُّصُب الحروفية الطويلة نسبياً، ويحرص على أن تكون المعالجة دائماً "عند ملتقى أي منظورَين مختلفَين، من روح الخطّ العربي، تنطلق منه لتعود إليه. فإذا كانت العبارة المنحوتة بالخطّ الكوفي مثلاً، فلا بدّ أن تكون المعالجة بطريقة هندسية، أمّا لو كانت بالديواني فتختلف المعالجة عضوياً". ويشرح هذا بالقول: "لو أردنا تمثيلاً بسيطاً لما نقول، فإنّ هندسة الجوامع عبَرت من خلال المُقرنَصات من المربّع في الأسفل (البِناء) إلى المُدوَّر في الأعلى (القِباب)، وكذلك القِطَع التي نراها في المنحوتات، استعنتُ فيها بهذا التكنيك للانتقال من الخطوط المستوية إلى المائلة".
يجمع جوزيف الحوراني بين عدّة حقول معرفية وإبداعية؛ حيث حاز ثلاث شهادات جامعية في كلّ من العمارة والفلسفة والموسيقى، قبل أن ينال الدكتوراه عام 2010 عن أطروحة عنوانُها "المبادئ البارامترية المعمارية في عصر علم التحكّم الآلي"، وهذا التنوّع في الاختصاصات ينعكس حساسيةً في حديثه عن معرضه الذي استغرق التحضير له أربع سنوات، خاصّة حين ينبّه إلى أنّ "نوعية الخشب تفرض على الفنّان أبعاداً مختلفة عمّا خطّطه مسبقاً. الأمر مختلف بين الإيروكو والزان والجوز. كلّ خشبة لديها طاقة معيّنة. أحياناً عليكَ أن تتركَ الأمر لها، هي توحي لك بما يجب عليك فعله".
ويُعيد الحوراني رمزية المعرض إلى "استرجاع ما للثقافة العربية من حضور وفاعلية، حتى نقول كلمتنا الفنّية من خلال ذاتنا وبيئتنا لا عبر التقليد الأوروبي، فمهمّة الفنّان تكمن في استنباط هذه الأدوات والمنافسة بها جماليّاً".
ويُضيف في حديثه إلى "العربي الجديد": "لا توجد عندي خطّة واضحة أثناء الإنجاز، وتقريباً أقضي غالبية الليل بالعمل والنحت، لكنّ الأهم عندي أن تبقى محافظاً على طريقة التعامل مع الخشب وأيّ نوعية أمامك، فهذه المادة شديدة الحساسية، وانعدام الرعاية أو الدقّة مهما كان بسيطاً سيظهر فوراً عليها، ويمكن أن تنكسر بين يديك. العبارات التي نراها أُنجزت بدقّة بحيث لا تقع الحروف في الفراغ وإلّا انكسرت الخشبة، إنّما الحرص على أن يقع الخطّ على الخطّ. خشبة واحدة تفيض بكلّ هذه الحروف التي يستند بعضها على بعض، ولا تقوم أبداً على تقنية التلصيق التي نراها في لعبة الليغو، أو الحفر الذي تؤدّيه آلات الـCNC".
ويختم: "لا بدّ من الإشارة إلى أنّنا في آخر جيل من الفنّانين ما زال يستخدم يده في إنجاز مثل هذه المنحوتات، في حين بدأ الجيل الجديد باستخدام برامج الكمبيوتر، بالتالي نحن لسنا 'على أعتاب' خطر من اقتحام الآلة والذكاء الاصطناعي لهذا المجال، لأنّ التحدّي بين الآلة والإنسان قائم بالملموس فعلاً. نحن لا نستطيع أن نسبق الآلة، لكن بمجرّد ما سلّمنا بهذه الفكرة فإنّنا سنُهزم أمامها، فالآلة بالنهاية لا تُعطي عاطفة بل إنتاجاً مُجرّداً، وطالما أنّ العاطفة ما زالت ملكنا فإنّ معنى الفنّ وجوهره سيظلّ قائماً".