خَصَّص "المنتدى السنوي لفلسطين"، في دورته الأُولى التي افتُتحت أوّل من أمس السبت في الدوحة، خمس جلسات بعنوان "ندوة أسطور" تناولت على مدار يومَين (اليوم وغداً)، موضوع "الكتابة التاريخية في فلسطين". و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي أطلق المنتدى في برنامج غنيّ من 62 ورقة، أفردَ للجانب التاريخي الثقافي جزءاً من دورته الحالية، خصوصاً عبر "أسطور"؛ وهي فعالية مستلهَمة من الدورية نصف السنوية التي يُصدرها بالاسم نفسه منذ 2015، والمخصَّصة للدراسات التاريخية.
وبما هو تاريخٌ وفارق فادح في موازين القوى بين أصحاب الأرض واستعمار استيطاني، فإنّ الدفاع عن حقّ الرواية هو السمة التي طبعت الأوراق المقدَّمة في اليوم الأول تحت عنوان "الأرشيف والأرشيف المضاد".
انظُروا إلى الحجارة
بشارة دوماني، رئيسُ "جامعة بيرزيت" في فلسطين، والذي يشغل منصب "كرسيّ محمود درويش للدراسات الفلسطينية" في "جامعة براون" بالولايات المتّحدة، وجد في مساهمته الافتتاحية أرشيفاً في الفضاء العمراني والاجتماعي على أرض فلسطين. ها هو عنوان ورقته يقول: "انظُروا إلى الحجارة: نحو تاريخ حديث للفلسطينيّين". هذه الحجارة سيرة اجتماعية وسياسية، بوصفها أداة تنظيم لكتابة تاريخ الفلسطينيّين.
إضاءة أرشيف فلسطيني متنوّع تحجبه السرديات الاستعمارية
يتبنى دوماني القول إنّ الحجارة الغنيّة برأس المال الرمزي (من حيث الأصالة والفاعلية)، والمحورية في الثقافة المادية (أي العلاقة بالأرض والبيئة الحضرية)، والأساسية في الاقتصاد السياسي (العمل ورأس المال في قطاعات الاستخراج والبناء والتصدير)، تُسلّط الضوء على الأرشيف المتنوّع لنضال الفلسطينيين اليومي الذي تحجبه ظلال السرديات السياسية.
فمثلاً، يشهد الحجر الجيري في التلال، والحجر الرملي في المناطق الساحلية، والمباني الإسمنتية في مخيّمات اللاجئين، على نحو استثنائي، على ما يعنيه أن تكون فلسطينياً، مضيفاً أنّ هذه الحجارة، سواء كانت مقطّعة أو رُميت أو بيعت أو عُرضت أو حتى استُخدمت بوصفها استعارة، تروي حكايات وتجسّد المستقبل السياسي الذي لا يخضع لبنى الماضي القومية، والذي لا تستحوذ عليه بالكامل القبضة الهيكلية لبردايم استعماري استيطاني.
الطابو والمجتمع والدولة
والأرشيف بوصفه موضوع تحليل وتأريخ ومجالاً حيوياً، لا فقط مصدر معلومات، هو ما يجد تمثيلاً له في قراءة منير فخر الدين، عميدُ كلّية الآداب في "جامعة بيرزيت"، حول "تاريخ سجلّات الأراضي والصراع على فلسطين: الطابو، والمجتمع، والدولة (1858 - 1948)".
انطلقت ورقة فخر الدين من ثنائية "الأرشيف الحي" أو "نواة الأرشيف" أو تلك السجلّات التي تُنتَج بوصفها أداة لضبط الواقع بيروقراطياً، (كسجلّات الملكيات والانتقال العقاري وسجلّات النفوس وغيرها)، وبين الأرشيف "الميت"، أي كلّ تلك السجلّات التي توثّق مولد وعمل السجلّات العملية وتشكّل ما يمكن وصفه استعارةً بـ"غلاف النواة".
ومن خلال تفكيك هذه الثنائية، طرح لنا سردية جديدة حول عمل الأرشيف باعتباره جزءاً من منظومة الحكم وتحويله إلى محور الصراع على الأرض، من الصراع على الغلّة والمنتج الزراعي الناجم عن نمط الإنتاج المحلّي، إلى الصراع حول الملكية الحصرية والإقصائية، واستبدال نمط الإنتاج الزراعي الأصلاني بآخر استعماري - استيطاني ورأسمالي.
تحدّياتٌ كثيرة وكبيرة تواجه كتابة تاريخ المدن الفلسطينية
وبما توصّل إليه، فإنّ تفكيك نظام الأرشيف، عبر التمييز والربط بين النواة والغلاف، "الجوهر" و"العرض"، يساعد في فتح السرد الفلسطيني لينطق عن أشكال العنف، والظلم، والعسف، والاقتلاع التي تغفل عنها المناهج التقليدية في التأريخ للأرشيف، وذلك بحكم تصوُّرها الأرشيف على أنه مجرّد حافظة للمعلومات والحقائق التاريخية.
يتشكّل مسعى المُحاضر في التأسّي على أنّ إنتاج سجلّات المُلكية هو في حدّ ذاته إحدى أدوات إنتاج علاقات القوّة والصراع على فلسطين، ويتطلّب تحويلها إلى مصدر لتاريخ الناس على قدر كبير من البناء النظري والمفاهيمي، معتمداً على بحث كثيف في مواد عديدة تشمل سجلّات البيروقراطية الاستعمارية والمصادر الفلسطينية المكتوبة، كالجرائد والمذكّرات والرسائل وعروض الحال التي تركّز على تسوية أراضي بيسان التي انطلقت عام 1921، ولكنّها تتشعّب إلى مساحات أُخرى من التاريخ الفلسطيني، بدءاً من قانون الأراضي العثماني وانتهاءً بالنكبة عام 1948.
"أرشيفنا" السليب
فقد الفلسطينيون بفقدهم بلادهم، خلال عقود من الحرب المستمرّة مع المشروع الاستعماري الصهيوني، جزءاً من تراثهم الوثائقي، الذي حفظ بعض صوتهم، ووثّق بعض فعلهم. ومن أبرز محطّات هذا الفقد ما نُهب من وثائق خلال شهور حرب 1947 - 1949، ومن ثمّ خلال حرب يونيو/ حزيران 1967.
صار تراث فلسطين رهين أرشيفات متعدّدة، كما يتقصّى بلال شلش، الباحثُ في مشروع "توثيق القضية الفلسطينية" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".
لكن ثمّة إمكانيةٌ للاشتغال على عشرات الملفّات الوثائقية المنهوبة. وخلال السنوات الماضية، تبدّت بعد أن طرأت سياسات أرشيفية جديدة لدى السلطات الاستعمارية الصهيونية.
وكما يلاحظ الباحث، فقد أذن هذا "الفتح"، وسيأذن بموجة جديدة من الكتابة التاريخية المستندة إلى أصوات أُسكتت خلال العقود الماضية، تُبرز رواية محلّية يمكن أن تساهم في التأسيس لكتابة تاريخية مستندة إلى مصادر أوّلية مجهولة، وتُعيد النظر في كتابة تاريخ فلسطين المعاصرة، وتاريخ أهلها.
وبهذا، فإنّ استعادة الأرشيف المنهوب، وإن بصورة افتراضية، تفتح آفاقاً مختلفة أمام الكتابة التاريخية، لكن إلى جانب هذا "الفتح"، توجد أيضاً حدود مختلفة، بعضها مرتبطٌ بسياسات "الفتح" و"الإغلاق" المستخدَمة في الأرشيفات الصهيونية، وتبايُن هذه السياسة بين أرشيف وآخر، وبعضها مرتبط بطبيعة الأرشيف عموماً، والأرشيف الاستعماري خصوصاً، ما يفرض عدداً من المحاذير أمام أيّ بحث تاريخي جديد، كما تورد ورقة شلش.
تاريخ الباقين
تعاين الأكاديمية والباحثة الفلسطينية همّت زعبي توجُّهاً في الدراسات النقدية يفيد بأنّ الأرشيف كما التاريخ يؤرّخ رواية المنتصر، وأنّ المستندات تُستعمل لتوثيق رواية المنتصر، فيصبح الأرشيف مكاناً يحفظ هذه الرواية لأجياله القادمة، وذلك على حساب الشهادات الشفوية بوصفها آلية معرفة بديلة في تدوين التاريخ تبني خطاباً مضادّاً للهيمنة الكولونيالية.
وهي ترى، على الرغم من أهمية الشهادات الشفوية، كونها أداة تحرُّر ووسيلة لها دور مهم في بناء الذاكرة الجماعية، أنّ هذا النقد يغفل، في بعض الأحيان، صفة الفاعل الباحثة المناهضة للكولونيالية، ولا يثمّن كفاية فعل القراءة النقدية للمستندات المتوافرة في أرشيف المستعمر، بوصفه فعلاً تحرّرياً.
تحاجّ الباحثة بأنّ قراءة نقدية في أرشيف المستعمر تشكّل مصدراً معرفياً إضافياً مهمّاً لفهم حياة الفلسطينيّين اليومية في فلسطين.
وتزداد أهمية هذه المصادر في حالة الباقين في فلسطين، وتحديداً من بقي في المدن الفلسطينية، إذ يشكّل طردُ معظم سكّان المدن الفلسطينية، وقلّة الدراسات والأبحاث التي جَمعت شهادات شفوية لتدوين السنوات الأولى لاحتلال المدن، تحدّياً كبيراً في كتابة تاريخ المدن الفلسطينية ومن بقي فيها بعد النكبة.
وقدّمت الورقة نموذجها المتمثّل في واقع حياة الباقين في مدينة حيفا بعد احتلالها مباشرة، معتمدةً على مستندات من الأرشيفات والصحف الإسرائيلية.
وتتضمّن هذه المستندات وثائق ومستندات ذات صلة مباشرة بإدارة شؤون هذه الفئة من الشعب الفلسطيني، إضافة إلى مراسلات بين الباقين ومؤسّسات الحكم المحلّي والمركزي تشكّل مصدراً ضرورياً يساهم في كتابة فصل مهمّ في تاريخ الشعب الفلسطيني، كما أكدت.
الأرشيف العثماني
الكتابة التاريخية في فلسطين في وثائق الأرشيف العثماني لها أهمية يُبرزها وليد العريض، أستاذ التاريخ العثماني والحديث والمعاصر في "جامعة اليرموك" بالأردن، مستهدفاً إبراز عروبة فلسطين التاريخية، وخاصّة في العهد العثماني.
ولديه من المصادر ثلاثة أنواع، هي: وثائق الأرشيف العثماني في إسطنبول، وسجلّات المحاكم الشرعية في الفترة العثمانية، مثل سجلّات القدس ونابلس وغيرهما، والدراسات الفلسطينية المتعلّقة بالمسائل الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وذهبت مساهمة العريض إلى التعريف بالأرشيف العثماني وأهمّ الوثائق الفلسطينية فيه، وأهمّ الدراسات التي اعتمدت على بعض المصادر العثمانية سواء العربية منها أو الأجنبية، ونماذج من دراسات الباحث التي اعتمدت على الأرشيف العثماني.