عن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثاً كتاب "المجتمع العقابي: دروس ألقيت في الكوليج دو فرانس (1972 - 1973)" لميشيل فوكو، من إعداد برنارد أ. هاركورت، وإشراف فرانسوا إيوالد وأليساندرو فونتانا، بترجمة نصير مروة.
يحتوي الكتاب على ثلاث عشرة محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي في عام 1973، تبحث في الطريقة التي تشكَّلت بها العلاقات بين العدالة والحقيقة التي تحكم القانون الجنائي الحديث، والرابط بينها وبين نظام عقابي جديد لا يزال يهيمن على المجتمع المعاصر. تشمل المحاضرات المجتمع بأسره خارج نظام السجون، علاوة على مواد تاريخية لها صلة بالاقتصاد السياسي الكلاسيكي، والكويكرز الإنكليز و"المنشقين"، وعملهم الخيري - وهم الذين يدخل خطابهم السجن في العقوبة - ثم تبحث في إضفاء الطابع الأخلاقي على وقت العمل.
وفي سياق نقده الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، يقدّم فوكو تحليلًا للحرب الأهلية، حيث يرى أنها ليست حرب الكل ضد الكل، بل يرى فيها "مصفوفة عامة" تجعل من الممكن فهم طريقة عمل الاستراتيجيا العقابية التي يكون هدفها العدو الداخلي أكثر منه المجرم، بحسب الكتاب.
يحتوي الكتاب على ثلاث عشرة محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي في عام 1973
إن فكرة الحرب الأهلية هي التي ينبغي أن توضع في صلب هذه التحليلات التي تتناول العقوبة؛ فالحرب الأهلية في اعتقاد فوكو هي فكرة لا تزال تعاني قصورًا في صوغها فلسفيًّا وسياسيًّا وتاريخيًّا. وهذا أمر يعود إلى بضعة أسباب. والذي يبدو له هو أن التغطية على الحرب الأهلية والتستر عليها، وتأكيد أن لا وجود لها، هو من أول مسلّمات ممارسة السلطة وبدهياتها.
ويرى فوكو أن الحرب الأهلية هي الحالة الدائمة التي يمكن وينبغي أن نفهم، انطلاقًا منها، عددًا من تكتيكات الصراع هذه، التي تظل العقوبة تحديدًا هي التمثيل الأفضل عليها، وبامتياز، والحرب الأهلية هي رحم صراعات السلطة كافة واستراتيجياتها كافة، ومن ثم، رحم الصراعات كافة على السلطة وضدها وفي صددها. إنها الأرضية العامة التي ستتيح وضع استراتيجية خاصة بالعقوبة متمثلة في الحجز، وفهمها وإعمالها.
من جهة أخرى، يشير الكتاب إلى أنه في القرن التاسع عشر، فإن ما باتت السلطة تتحقق به لم يعد ذلك الشكل المرئي الاحتفالي الطقوسي من السيادة، إنما العادة المفروضة على البعض، أو على الجميع، ولكن لكي يجد البعض، بادئًا وأساسًا، نفسه مجبرًا على الإذعان.
لذلك، فإن في وسع السلطة دائمًا في هذه الشروط أن تتخلى كليًّا عن كل ذلك البذخ وعن تلك الفخامة في الطقوس المرئية، وكل أغطيته وأقمشته وسماته وعلاماته. سوف تتخذ بعد الآن الصورة الماكرة والشكل المخاتل، اليومي، الاعتيادي للمعيار؛ وتستطيع أن تستتر وتتوارى بوصفها سلطة، لتتبدى بوصفها مجتمعًا. لقد جرت استعادة دور احتفالية السلطة في القرن السابع عشر في ما نسميه الوعي الاجتماعي.
وفي هذا المجال بالتحديد سيجد إميل دوركهايم موضوع علم الاجتماع. ينبغي معاودة قراءة ما يقوله في كتابه "الانتحار" بصدد الخلل أو المرض فما يميِّز الاجتماعي بوصفه اجتماعيًا، في مقابل السياسي الذي هو مستوى القرارات، والاقتصادي الذي هو مستوى التحديدات والتعيينات، ليس سوى نظام الانضباطات والإكراهات، بحسب الكتاب الذي يلفت إلى أن نظام الانضباطات هذا، بوصفه وسيلة السلطة، إنما هو الأمر الذي يمارس به، ولكن على نحوٍ يستتر به ويتوارى، ويقدِّم نفسه على أنه تلك الحقيقة العيانية التي تحتاج الآن إلى وصف، أي ما نسميه المجتمع، موضوع علم الاجتماع.