يخال للمرء قبل الشروع في قراءة كتاب المفكّر الفرنسي ميشيل أونفري (1959) Autodafés: L’art de détruire les livres (يمكن ترجمة العنوان إلى "رسوم الإيمان: فن تدمير الكتب") الصادر بالفرنسية في آب/ أغسطس الماضي، وإذا توقفنا عند عنوان العمل، أنّنا سنكون أمام نص يتناول منع أعمال أدبية وفلسفية في فرنسا واضطهاد أصحاب هذه الأعمال. فرسوم الإيمان هي ما اضطر للقيام به كل من اتُّهموا بالهرطقة والردة الدينية وأجبرتهم محاكم التفتيش في العصور الوسطى على الاعتراف العلني بـ"خطيئتهم"، قبل تنفيذ حكم بحقهم، وغالباً ما يكون هذا الحكم هو الإعدام حرقاً في الساحات العامة. لكن الصفحات المئتين في كتاب أونفري تتناول ستة كتب، يبدو أنها مفضلة عند أونفري ويعتقد أنها لم تنل حقها، وأن مضمونها وأصحابها تعرّضوا للنقد من قبل من يسميهم في مقدمته "فاشيو اليسار".
يكرّس صاحب "نفي اللاهوت" (2005)، ما بدأ فيه سابقاً من انتقادات لأبرز فلاسفة اليسار مثل جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وميشيل فوكو وغيرهم، ويجعلهم هدفاً له ويتهمهم بأنهم مالأوا ستالين ثم ماو تسي تونغ والخميني على حساب منتقدي هؤلاء وحاربوا أي نقد لهم في الكتب أو الصحافة. عنوان الكتاب يجعل القارئ يستعدّ ليقرأ أسراراً مثلاً عن كتب لم تُطبع أو صودرت بسبب انتقادها للصين والاتحاد السوفييتي، ليفاجأ بأن المؤلفات التي يتناولها مشهورة، لا بل إن بعضها لا يزال يُطبع إلى اليوم بعد عقود على نشرها، مثل "صدام الحضارات" لصامويل هانتنغتون.
يدرس العمل بحسب مؤلفه كيف نُسفت كتب ضرورية لفهم الحقيقة
الكتب الستة التي يتناولها العمل هي: "الثياب الجديدة للرئيس ماو" لـ سيمون لايز (1971)؛ "أرخبيل الغولاغ" لـ ألكسندر سولجنستين (1973)؛ "رحلة إلى قلب الاستياء الفرنسي" لـ بول يونيه (1993)؛ "صدام الحضارات" لـ صامويل هانتنغتون (1996)؛ "الكتاب الأسود للتحليل النفسي" (جماعي، 2005)؛ و"أرسطو في قمة سان ميشيل" لـ سيلفان غوغنهايم (2008).
لكن المؤلِّف وقبل تفنيد ما يراه حملة شعواء على كل كتاب، يخصّص مقدمته لهجوم شرس على اليسار الفرنسي الذي يعتبر أونفري نفسه ممثلا للجانب الليبرالي منه. فمن تسع وعشرين صفحة تشكلها المقدمة، نجد ستاً وعشرين منها موجهة لنقد "فاشيي اليسار" الذين كرستهم تظاهرات أيار/ مايو 1968 لتكون لهم سطوة، وفق أونفري، ليتحكموا بالجامعات والصحافة والأدب والسينما وعالم النشر، إلخ. ونتيجة لذلك، لن يعرف القارئ عما يتحدث عنه الكتاب قبل الصفحة 26 حين يفسر لنا أنه "يدرس كيف نُسِفت كتب ضرورية لتأسيس الحقيقة (...) كان هدفها تدمير أوهام يعيشها الناس". بالتالي، إذا لم يكن قارئ الكتاب على بيّنة من موضوعه قبل الشروع به، لن تخبره المقدمة الكثير.
يخصّص أونفري لكل كتاب من الكتب الآنفة الذكر فصلاً، يقسمه لجزأين: الأول يتحدث فيه عن تفاصيل الكتاب والثاني عن الحملات التي طاولته. ويستعير في هذا التقسيم جملة من أغنية فرنسية اشتهرت في الستينيات للمغني غي بيار عنوانها "الحقيقة": "أول من يقول الحقيقة، يتم إعدامه". فيُعنون الجزء الذي يتحدث عن تفاصيل الكتاب "أول من يقول الحقيقة..." والثاني "... يتم إعدامه".
"الثياب الجديدة للرئيس ماو" لسيمون لايز يتناول فترة حكم ماو تسي تونغ والثورة الثقافية، ويفند كل مساوئها. والكتاب طبع مرات عدّة، منذ صدوره للمرة الأولى عام 1981. يعتقد أونفري أن الكاتب، وهو متخصص في الشؤون الصينية والآسيوية، تعرّض لحملة شعواء بسبب عشرات المقالات نشرت في الأشهر التي تلت صدور الكتاب تنتقد مضمونه، في الصفحات الثقافية للصحف الفرنسية. هذه المقالات لم تمنع لايز من نشر كتابين في السنوات اللاحقة يتابع فيهما ما بدأه من تأريخ لفترة حكم ماو: "الظلال الصينية" (1974)، و"الصور المكسورة" (1976)، إلى جانب عشرات الكتب الأخرى في مواضيع متنوعة، وتم تكريمه بعدد من الجوائز الأدبية في فرنسا وخارجها.
الكتاب أقرب إلى "تنفيسة" شخصيّة منه إلى عمل فكريّ
أما كتاب "أرخبيل الغولاغ" لألكسندر سولجنستين، فيعتبر أونفري أن منتقديه يتساوون مع الجلادين في الغولاغ نفسه، ويتساءل: كيف لم تتم محاكمة مؤيدي الفكر الماوي والتروتسكي في فرنسا على غرار مؤيدي هتلر وبيتان (الماريشال الفرنسي الذي تعاون مع النازية). ويصل به الأمر إلى اعتبار أنّ الهجوم الذي تعرّض له الكتاب كان يهدف لتمهيد الطريق أمام فرانسوا ميتران لكسب الانتخابات.
كتاب "رحلة إلى قلب الاستياء الفرنسي" لبول يونيه كان موجّهاً ضد جهود جمعيات مناهضة العنصرية الفرنسية التي نشطت في الثمانينيات، وينتقد "شيطنة البيض" ويرفض تحميل البيض أي مسؤولية عن العنصرية تجاه المهاجرين. كان الكتاب بطبيعة الحال هدفاً لعدد كبير من المقالات الصحافية وتطوّع فنانون ومثقفون للترويج ضده في مقابلاتهم التلفزيونية. لكن ذلك لم يمنع طبع الكتاب مرات عدة، وبقاء يونيه في منصبه الجامعي حتى تقاعده، واستمراره في النشر والكتابة.
ومن المستغرب أن يحضر كتاب "صدام الحضارات" لصامويل هانتنغتون. أونفري مقتنع بأنّ الحملة ضد الكتاب في الصحف الفرنسية قام بها من ينعتهم بـ"اليسار المدافع عن الخطاب الإسلامي" islamo-gauchistes. هؤلاء، وفق أونفري، خدموا بشكل غير مباشر أطروحات فرانسيس فوكوياما ومنتدى دافوس والليبرالية التي يروّج لها. كيف يمكن لعشرات المقالات أن تكون "دمرت" كتاب هانتنغتون الذي أعيد طبعه في فرنسا وحدها مرات عدّة منذ صدوره؟ لا يفسر لنا أونفري ذلك، وهو يركز انتقاده الأكبر على مقال إدوارد سعيد النقدي "صدام عبر الجهل" الذي نشرته صحيفة "لوموند" في تشرين الأول/ أكتوبر 2001.
أما "الكتاب الأسود للتحليل النفسي" فلا ينجح أونفري في تنويرنا كيف "استُهدف" وهو يؤكد لنا أنّه حقّق نجاحاً جماهيرياً كبيراً فبيعت خمس وعشرون ألف نسخة منه في أسبوعين. الكتاب يجمع نصوصاً لعدد من الباحثين في علم النفس يفنّدون فيه طريقة عمل سيغموند فرويد ونظرياته وينتقدونها، وقد أعيد طبعه بصفحاته الثمانمائة مرات عدة بسبب الإقبال الجماهيري عليه. تعرّض الكتاب لحملة نقد كبيرة من قبل مؤيدي فرويد وتلامذته، لكن الأمر اقتصر على مقالات في الصفحات الثقافية في الصحف ومداخلات في برامج ثقافية على شاشات التلفزة.
وأخيراً، يتناول أونفري كتاب "أرسطو في قمة سان ميشيل" الإشكالي، والذي نشره الباحث في شؤون القرون الوسطى سيلفان غوغنهايم في العام 2008. يطرح الكتاب إعادة النظر في مساهمة العرب في إحياء العلوم والأدب في أوروبا في القرون الوسطى، ليؤكد على أن من نقل علوم اليونان القديمة إلى أوروبا ليس المسلمون ولكن مترجمون نسّاك عاشوا في سان ميشيل في فرنسا وبجهد من راهب كاثوليكي يدعى يعقوب من مدينة البندقية. الكتاب أثار زوبعة داخل الأوساط الأكاديمية الفرنسية وانتقادات كثيرة باعتبار أنه لا توجد إثباتات تاريخية على وجود الراهب يعقوب، وهو ما قاله غوغنهايم بعد فترة، معترفاً بأنه لم يجد براهين تاريخية على عمل هذا الراهب. لكن غوغنهايم رغم ذلك، بقي في عمله الجامعي، ويستمر لليوم في النشر والكتابة. أونفري يعتبر أن الحملة الإعلامية والأكاديمية أجبرت غوغنهايم على القول إنّ الشخصية الرئيسية لكتابه لم تكن موجودة كي يتخلص من النقد، وأنّ الكتاب "عمل إبداعي".
استعارة أونفري عنوان كتابه من أدبيات العصور الوسطى قد تحمل بعض المبالغة والتضليل. الكتب التي تناولها في عمله نشرت (وبعضها أعيد نشره في طبعات لاحقة) وحظي أصحابها بمنابر إعلامية للدفاع عما كتبوه، وحافظوا على وظائفهم ولم يتعرّض أحدهم لمحاولة اغتيال عدا المعنوية منها التي يكررها في كل فصل من فصول كتابه.
وإذا كان الغرب شهد على منع بعض الكتب حتى ستينيات القرن الماضي في بداية القرن العشرين، لا يمكن للقارئ ألا يسقط العنوان على حال عالمنا العربي. شهد القرن العشرين، وما قبله وما بعده، منع كتب وروايات بشكل رسمي وردود فعل شعبية وصلت إلى تهديد بالقتل لمجرّد احتوائها على ما اعتبر خادشاً للحياء العام أو مسيئاً للسلطة الحاكمة أو واهناً للأمة أو للدين. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، والتي تسببت بمحاولة اغتياله بعد أربع عقود على صدور العمل للمرة الأولى، أو الطاهر الحداد وكتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (انظر مقال نجم الدين خلف الله في "العربي الجديد" المنشور في 26 آب/ أغسطس 2017)، الذي أفقده وظيفته. كذلك خماسية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، التي لم يسمح بدخولها لعدد من الدول العربية سوى منذ عقد. أما كتاب حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، فقد تسببت إعادة طبعه بعد عقدين على نشره لأول مرة بتظاهرات لطلاب الأزهر نتج عنها سحبه من الأسواق المصرية. ناهيك عما تعرّضت له نوال السعداوي ونصر حامد أبو زيد الذي اضطر لمغادرة مصر، وغيرهم.
كتاب أونفري قد يكون "تنفيسة" شخصية، هو في أسلوبه ولغته ركيك ويشبه تغريدة طويلة، أو منشوراً فيسبوكياً. يتناول كتباً يحبها أو أثّرت به، ويرى أنها لم تأخذ حقها أو ظُلم مؤلفوها، لكنه بأي شكل من الأشكال لا يرقى ليكون كتاب فلسفة، كتَبَه من يُعتبر اليوم من أهم المنظرين والفلاسفة الفرنسيين.
أونفري ومنذ صدور عمله الأخير يجول على البرامج التلفزيونية الفرنسية مروجاً لكتابه بطريقة توحي بأنّ الكتاب سيفضح الأنتليجنسيا الفرنسية الثقافية و"منعها" كتباً بعينها لدوافع سياسية، ليتضح بعد قراءة الكتاب أنّه مجرّد اعتراض على مقالات نقدية لم تعجب المفكّر الذي تنحو آراءه في السنوات الأخيرة لتتماهى مع اليمين المتطرف في ما يتعلق بالمهاجرين والمسلمين والعرب.