"منزل الذكريات" لمحمود شقير: فنتازيا الواقع

17 نوفمبر 2024
نوفيلا تكاد تتّسع لأشياء كثيرة
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "منزل الذكريات" للكاتب محمود شقير هي رواية قصيرة تتناول حياة محمد الأصغر بعد وفاة زوجته، حيث يعيش في عالم من الذكريات والأحلام.
- تستعرض الرواية مواضيع الحب والجنس والتراث العربي، وتظهر صراع محمد مع شخصيات مثل أسمهان وجميحان، مما يعكس واقعاً معقداً مليئاً بالتحديات.
- تتناول الرواية تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، وتستخدم الواقعية السحرية لتقديم نص مقاوم مليء بالتأملات الفلسفية.

تحت دمغة "نوفيلا" (رواية قصيرة)، تقع "منزل الذكريات" للفلسطيني محمود شقير. الرواية التي صدرت حديثاً عن "دار نوفل هاشيت أنطوان" من 172 صفحة، وهو رقم ليس قليلاً حتى لرواية، ثمّ إنّ عالم الرواية ضيّق ومتّسع بالقدر نفسه. تبدأ الرواية بموت سناء، زوجة محمد الأصغر بن منان عبد اللات، اسم يردُّنا إلى العصر الجاهلي، لكنّ لعبة الأسماء لا تقف هنا، فلمحمد الأصغر أخٌ هو محمد الكبير، كأنّ لعبة الأسماء هنا تقف عند اسم علم واحد "محمّد".

ثم إنّ الرواية لا تكتفي بموت سناء التي لا تلبث أن تعود إلى زوجها وإلى سريره. هنا نبقى عند الذكريات التي تجد لنفسها صوراً وأجساماً ووقائع. الذكرى ليست وحدها هنا، إنّ لها جناحاً آخر مستمدّاً هذه المرّة من الكتب، وبالضبط كتابين متواصلين، أوّلهما "الجميلات النائمات" لكواباتا، وثانيهما رواية ماركيز التي بنت عليها "ذكريات عن عاهراتي الحزينات". الثانية باعتراف ماركيز تستلهم الأُولى. الروايتان تتكلّمان عن عجوزين يجدان متعتهما في التمدّد جنب جميلة راقدة في السرير. الروايتان، كما يتراءى، لم تردا عبثاً. الراوي هو أيضاً في ثمانينياته، والعجوزان يحضران من الروايتين للاجتماع به. إذا علمنا أنّ محمود شقير وُلد عام 1941، جاز لنا أن نتساءل عن صلة الراوي بالروائي.

بل لن نخطئ، إذا وجدنا بينهما قرابةً قد تجعلهما واحداً، لكنّ العجوزين طيفان، وإذ يحضران من كتابَين، فإنّهما من ذلك قريبان من سناء التي تحضر من قبرها. يمكننا عند ذلك أن نتساءل عمّا يصل شخصيتين من الكتب بواحدة من الماضي. نحن هكذا أمام فنتازيا لا تكاد تنفصل عن الواقع، بل هي تطغى على هذا الواقع فتحيله طيفاً خيالياً.

عودة مستطردة إلى التراث العربي، خصوصاً مؤلّفات الحب والجنس

ثمّة ما يتراءى وجه الصلة بينهما، إنه تذكُّر، بل هو بكلمة أُخرى الحلم. محمّد الأصغر لا يحلم فحسب، بل إنّ أحلامه تجري مجرى الواقع. إنّها مكشوفة مرئية، واضحة للآخرين. أحلام محمّد تستفزّ الآخرين بحيث يحاسبونه عليها، محمّد الذي لا تفارقه ذكرى زوجته، بل هي تحضر بجسمها وصوتها وعتبها للقائه، يبقى ذلك بما يشبه الحلم، إنّها تملأ عليه عالمه، لكن ذلك مقصور على الذكريات، فهو لا يمانع من أن يذهب مع قريبه رهوان إلى بيت قوّادة، حيث يستعيد روايتَي كواباتا وماركيز، إذ يطلب من سميرة المومس أن تبتلع حبّة منوّم لتتمدّد إلى جانبه في رقادها، لكن الخيال هنا يكذب، فسميرة لا تنام ولو تظاهرت بالنوم. إنّنا هنا أمام واقع يُكذّب الحلم. ليست هذه المرّة الوحيدة التي يحضر فيها الواقع بجلاء وإلى جانبه أو مقابله الفنتازيا.

أسمهان التي تقتحم عليه حياته، وأخوها جميحان، هما من واقع مفرط. أسمهان تتزوّجه بضغط من أخيها جميحان الذي يحاسبه على أحلامه. لا يفعل جميحان ذلك فحسب، بل يتّهمه بأنه شيوعي مثل أخيه محمّد الكبير. أمر ليس صحيحاً البتّة، مع ذلك يضطر جميحان إلى أن يؤدّي الصلوات الخمس في الجامع القريب، ويضطرّه إلى السفر مع أسمهان الى الحج، ثم يُملي عليه أن يسجّل أملاكه باسم أخته، ليظهر بعد ذلك أنّه اسمه. لا نفهم سطوة جميحان، إلّا أنه واقع مُرّ يقابل نشوة التذكّر والحلم.

ليس الواقع هنا فقط، فهناك أيضاً حضور للاحتلال الإسرائيلي في ملاحقته للفلسطينيّين، يلاحق الراوي على أمور ليس لها أساس، ويلاحق قريبه رهوان ويطلب منه أن يتجسّس لصالح الاحتلال، ثمّ هناك أيضاً العودة المستطردة إلى التراث العربي، وبخاصّة تلك المؤلّفات التي تتناول الحب والجنس. هكذا نقع على حكايات وعلى أشعار وطرف أُخرى.

يمكننا في هذا السياق أن نقف قليلاً عند الأسماء، فهناك لعبة تبدأ من محمّد الأصغر بن منان عبد اللات، الذي لا تخفى جاهليته، مروراً بجميحان الذي يستمدّ من الجموح، إلى رهوان الذي لا ندري له أصلاً واضحاً. هكذا نجد أنّ نوفيلا محمود شقير تكاد تتّسع لأشياء كثيرة. إنّها محاولة لكتابة نص مقابل لنص كواباتا الذي سبق لماركيز أن بنى عليه. محمود شقير يعاود المحاولة ذاتها، فيما أنّ الرواية في ذات الوقت نصّ مقاوم للاحتلال، ولون من واقعية سحرية، ولعب بالأسماء والأحلام.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون