في مديح الجُبن

17 نوفمبر 2024
عمل لـ غزل سحابي
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه البطل تحديًا في نطق "غرويير"، مما يعكس صراعه مع اللغة الفرنسية وذكريات الطفولة، ويثير حنينه للثقافة الفرنسية وسعيه لإتقان النطق كجزء من هويته.
- يتعرض لموقف مفاجئ عبر "ستوري" واتساب، مما يدفعه للتفكير في تعطيل الإشعارات، ويشعر بالانفصال عن الواقع، مما يعكس صراعه بين تفاصيل الحياة اليومية والقضايا الإنسانية الكبرى.
- يعبر عن اهتمامه بالفن والأدب من خلال تأملاته في "الروكفور" ورغبته في كتابة مقال، محافظًا على غموضه الشعري وتجنب التبسيط.

كان يُحبّ "لُو غْغُيِيغ"... "لُغْريير"... "لُووو غرويِيييير"...

- سُحقاً لهذا اللسان!

تمالك نفسه حتى لا ينجرف للنهل من قاموس الشتائم العربية، ثم فتح فمه قليلاً. حاول تدويره برقّة، ومدّ شفتيه إلى الأمام: "جْغوييغ".

ضبط أعصابه مجدّداً وأخذ نفساً عميقاً، ثم أعاد تكوير شفتيه ساعياً بكلّ ما أوتي من رهافة للتلفّظ بتلك المُفردة الصفراء الفاقع لونها بعد استيفاء كلّ اشتراطات النطق الفرنسي.

لم يكن متأكّداً إن كان لسانه ـ الذي كان يلامس الأسنان السفلية ـ لا بُدّ من أن يتموضع إلى الأمام أو إلى الخلف من أجل الخروج بذلك الحرف المتحرّك النموذجي في لغة موليير على أكمل وجه: "كما لو كنتَ تستعدّ لقُبلة... أو كما لو كنتَ تطفئ شموع كعكة عيد ميلاد".

ـ الله على العذوبة... الله على الجمال!

هكذا قاطعت ذكرى "استعارة" القُبلة لمُدرّسة اللغة الفرنسية تمريناته الإجرائية في التدرّب على مخارج الحروف، وهبّت على روحه وكأنّها نسمة صيف باردة في ليلة قائظة من ليالي القيظ العربي. لقد كانت تلك الفرنسية (أو المتفرنسة) عذبة، وعذبة كانت الأصوات التي تخرج من الفتحة الوردية المتموضعة في النصف السفلي من وجهها. وكان أجمل شيء فيها أنّها كانت تتحدّث دوماً من مقدّمة فمها، بلسان منتفخ وشفاه مدوّرة ومتوثّبة...

ـ "الغغوييغ"... "غريير"... "غرويير"... "لُو غْغييغ دو فخانس"...

وبدا أخيراً راضياً -إلى حدّ ما- عن طريقة لفظ اسم ذلك الجُبن الفرنسي المشهور بثقوبه التي تَعرّف إليها هو شخصياً من كرتون "توم وجيري"، وأصبحت من حينها إحدى ألذّ وأغلى ذكريات طفولته البعيدة.

"اليوم لا فراق، اليوم يلتقي الرفاق، في جنّات النعيم بإذن الله".

توقّف بجزع أمام "ستوري" على الواتساب اقتحم فجأةً هناء أفكاره. شعر بقلبه يقفز وسط صدره، وكاد يُحصي له 130 ضربة في الدقيقة. تأكّد من أنّه لم يضغط على أيّ زرّ تفاعُل ولم يفلت منه أي "إيموجي" استحسان أو إعجاب أو تقدير. كانت ميزة "ستوريهات" الواتساب شيئاً يُشبه القضاء المستعجل، من شأنها أن تسقط على رأس أيّ غافل ليس له سوى الله... 
ـ تكون في وادٍ فتجد نفسك في وادٍ.

تنحنح وهو يفكّر في تعطيل إشعارات "ستوريهات" هذا المتّصل الذي ورّطه بمشاهدة مصيبة على جوّاله من حيث لا يدري.
"هل تسمعنا يا إسماعيل؟ أنت حيّ ونحن الميّتون".

وأيضاً على "إكس"؟ غمغم مُرتاباً وهو يدرس الآن طوفان المنشورات حول ما بدا وكأنّه بالفعل خطبٌ جلل. شغّل التلفاز حتى يتأكّد من حجم التغطية وأنّه لم يلج مجرّد فقاعة ما على مواقع التواصل. كانت الدنيا حرفيّاً مقلوبة. هل كان عليه أن يتجاهل "الترند"؟

سنقشّر اليوسفي
ونكسر بزر اللوز
نكاية في الموت
ليحيا الجمال
نحن الأحياء
وأنتم الميّتون
ـ طبعا لا!

بهدوء قلَب استعارة الشهداء الأحياء عند ربّهم يُرزقون نشَر نصَه المُرهف الذي كان -كما أراده- يحتمل قراءتين أو ثلاثاً أو أربعاً وأربعين، لا يهمّ. كان هو محسوباً على مدرسة الحداثة وما بعدها... كما كان يحبّ "الغْغييغ". عاد ليتدرّب على اللفظ الصحيح لذلك الجُبن، وقد ساءته مقاطعة انشغالاته الشعرية الرقيقة وهمومه الإنسانية العميقة وتأمّلاته في ثقوب المعيشة وتفاصيل الحياة البسيطة التي تؤثّث بهشاشتها صخب العالم بسرديات صغيرة مُكفكِفة دموع الثكلى والمشرّدين، حارسة نوم المثليّين والمكلومين وغيرهم من اليتامى والمُضطهدين. بعيداً عن السرديات الكبرى للمنتصرين والغيريّين والمتسلّطين. كان متأكّداً أن جُملاً كهذه لا يزال يكتبها النقّاد المرهفون. وكان هو يستهدف عشّاق الحياة والذوّاقين والحشّاشين... الحسّاسين. صحّح لنفسه. ثم توقّف قليلاً. تأمّل الأحرُف الستّة الأخيرة التي تلفّظ بها للتوّ. وشعر بشيء يشبه البهجة. لم يعُد لسانُه مؤهّلاً للنطق العربي!

- الحشّاش. الحسّاش. الحشّاس... ابتسم.

ـ غغوييغ دو فغونس... غرويير دي فرانس.... غغييغ دي فخانس...

كرّر بصرامة عسكرية وهو يرجو أن يكون قد وصل إلى اللفظ المثالي.

فكلّ ما كان عليه فعلُه هو تدوير شفاهه والاستعداد للقُبلة... القُبلة! تمتم بجزع وهو يفكّر بقلب ضمّة القاف إلى كسرة، نتيجة التحوّل الطبيعي للسانه عن النطق العربي. اتّجه إلى الثلّاجة واستغرق في الفكرة. هل سيغدو غريباً عن نفسه، أم أنّه أخيراً سيلتقيها. تناول بيده قطعة من "الغرويير"، وارتأى أن استعارة نفخ الشموع على كعكة عيد الميلاد أسلم من القُبلة... القُبلة... نظر في أحد الثقوب غير العميقة للشريحة الرقيقة التي قصّها له البائع على شكل مثلّث هرمي متساوي الأضلاع، وفكّر لو أنّه أتى بمثلّث أسمك ودكّ لسانه الموروب على شكل مخروط داخله، ولفّ، لفّ، لفّ، ثمّ بقي غارقاً في جوّانيته إلى حين. فهل سيذوب الجُبن في فمه ويغلّف حواف اللسان إلى غاية الحلقوم، وذلك طبعاً بعد تمدُّده على الأرض مع إسناد مؤخّرة رأسه بوسادة لمنح الجُبن وقته حتى يفيض على أقصى اللسان؟ أم أنّ الجُبن سيسيح على طرف اللسان فقط ويصنع عليه شيئاً يشبه قبعة البلّوط؟

"أمّا نحن فسنواصل رسالتك يا إسماعيل...".

أطفأ التلفاز وواصل دراسته التفاصيل الصغيرة لحياته البسيطة والمُرهفة والرقيقة. ودفعته قبّعة البلّوط إلى التفكير في معاناة هذه الثمرة المظلومة التي لم يتعرّف إليها (مُعتمرة قبّعتها) إلا من أفلام الكرتون الأجنبية، بينما لم يرَها معروضة في الأسواق الوطنية سوى حاسرة الرأس، هكذا ببساطة كأنّها جارية تُباع عارية في أسواق النخاسة الموصوفة في كتب التراث العربي. ما الذي يعنيه أن يفقد المرء رأسه دون أن يَعبأ أحدٌ بمعاناته... والحقيقة أنّ تلك القبّعة لم تكن قبّعةً فحسب، بل جزءاً لا يتجزّأ من البلّوطة. وفكّر أنّ ذوبان الجُبن على طرف لسانه لن يكون فعلياً مجرّد قبعة، أي مجرّد إكسسوار عرضيّ في النهاية، بل هو رأس لسانه الذي يشعر أنّه يفتقده بالفعل...

- رحم الله فقيد الأمّة.

كبس رأساً على زرّ الحذف. لم يُمهل ذلك التعليق خمس ثوانٍ على صفحته. لقد كان ينتظر التأشيرة ولم يكن في وارد مجاراة هؤلاء المتهوّرين. أغمض عينيه في تأثّر فلسفي، ثم عاد لتفحُّص جُبنه، وأخذ يلهج بتمرينات النطق الصارمة. وفكّر أنّه قد يضع قريباً كتاباً في مديح الجُبن، وشارك على الفور متابعيه همومه الأدبية دون أن يتخلّى عن غموضه الشعري.
ـ أين كنت منذ زمن أيها المثلّث الأصفر المجيد!

ـ الله أكبر.

ـ ؟

(ردّ بعلامة استفهام صادقة وهو يكاد يجزم بأنّه وسط هؤلاء المجانين لن يعدم حياته إلا بالسكتة القلبية).

ـ ألم تقصد هذا؟ (صورة للمثلّث الأصفر في عمليات كتائب الجهاد الإسلامي ضدّ دبّابة إسرائيلية).

ضبط نفسه بعد أن تراجع عن قذف شتيمة من وسط لسانه تمسح ذكره عن منصّات التواصل الاجتماعي. لكنه تذكّر أنّه كان عليه أن يحافظ على "حياده السياسي وانحيازه فقط لكلّ ما هو إنساني". صمت خمس دقائق. ولكنّه خشي لصمته أن يُقرأ على أنه علامة رضا.

ـ لا أقصد مثلّثات الموت، بل مثلّثات اللذة...

ردّ وهو يحرص على الحفاظ على غموضه الشعري مع أنّه أراد نشر صورة "البقرة الضاحكة" من الجُبن الفرنسي الطري لتبديد أيّ لبس قد يدفع موظّف القنصلية لرفض طلب التأشيرة. لكنّه لم يكن في وارد السقوط في المبتذل والسطحي واكتفى بإرفاق التعليق بلوحة "امرأة عارية نائمة على حافة الماء" لغوستاف كوربي، وليفهمها المتابعون كما شاؤوا... (الأهمّ أن يفهمها موظّف القنصلية)... فهو لم يكن في وارد تبسيط أفكاره وتحجيمها وإسقاطها في شعبويات الإسفاف الفكري... (والأهمّ أن لا يسقط في أيّ سوء فهم لدى موظّف القنصلية)... اتّجه على الفور إلى حاسوبه وفتح ملف "وورد" لمقال جديد: "في مديح الجُبن". ولإزالة أيّ شكوك بشأن مقاصده العميقة وصدق نياته القلبية سيكون الحديث عن "الروكفور"... "لُوغوكفوغ"... مَغمغ الكلمة بالنطق الباريسي، ثمّ حكّ أنفه على نحو غريزي.

"لا هو مثلّث أصفر، ولا أحمر، بل أزرق بعروقِ عفَنٍ لا تشوبها شائبة...".

وتنهّد متأمّلاً في مرارة العيش وسط مجتمع لا يحيا إلا على عنتريات أكل اللحم.

أمّا أنا فلن يحرمني أحد الجُبن! فكّر وهو يستدعي رائحة الروكفور، وحلم الغونكور.


* روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون