"مقاومة الذنب" لمنى شولي: المرأة وسلطة الضمير الليبرالي

31 ديسمبر 2024
نقد ما يُكرِّس تبعيّة المرأة للمنظومة الذكورية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تنتقد منى شولي في كتابها "مقاومة الذنب: معوّقات الوجود" الضغوط الاجتماعية والثقافية التي تواجهها المرأة في الغرب، حيث تُفرض عليها معايير صارمة تعيق تحقيق ذاتها.
- تستعرض شولي الجذور التاريخية والدينية للنظرة الدونية للمرأة، مشيرة إلى الإرث المسيحي-اليهودي والقيود الاجتماعية التي تُفرض عليها في مختلف مراحل حياتها.
- رغم نقدها العميق، لم تُسلط شولي الضوء بشكل كافٍ على التحديات المضاعفة التي تواجهها النساء المسلمات في فرنسا، مثل القيود على الحجاب والتمييز في العمل.

اعتاد القرّاء الفرنسيون أن ينهال عليهم مفكّروهم بانتقاد وضعيّة المرأة في العالم العربي وأن يُلصقوا برجاله وثقافته كلّ تُهم العُنف والإقصاء. فقلّما يلتفت المثقّفون هناك إلى وضع المرأة في الغرب، بعد أن اقتنعوا بأنها تحرّرت نهائياً من سلطة الرجال فلم يبق إلّا أن يُطبّق نموذجها، ولو بالقوّة، على سائر نساء العالمين.

تهاوت هذه القناعة حين أقدمت الصحافيّة السويسرية - الفرنسية منى شولي (والدتُها من أصول مصرية) على تحرير محاولة تأمّلية، في كتابها الصادر حديثاً عن "منشورات Zones" بعنوان "مقاومة الذنب: معوّقات الوجود"، حيث تنتقد سلطة الضمير الليبرالي على المرأة في الغرب وما تكابده من "وخز" وتأنيب إن هي حادت عن الأنماط المسطورة وابتعدت عن جادّة القوانين التي رسمها مجتمع الاستهلاك. فمنذ الصغر، تستبطن الفتيات معايير الجمال والأناقة والثراء باعتبارها معايير مطلقة، ثم يُطالَبنَ بأن تتوافق حياتهنّ معها، وهي من رسم مجلّات الموضة وشركات اللباس الفاخرة والعادية، فضلاً عن ضغوط وسائل الإعلام التي تضخّ صوراً نموذجية عن المرأة الحسناء التي تُجسّد المعيار الأوفى في النجاح والتألّق.

إلا أنّ المرأة الغربية، تُضيف صاحبة "الجمال القاتل" (2015)، تُحرَم من هذا التألّق بل وتُوضع أمامها العراقيل حتى لا تحقّق منه إلا ما يريده المجتمع الذكوري المتسلّط. وهنا تستعرض منى شولي كلّ الوسائل القانونية والحيل المهنية التي يستخدمها الرجال حتى لا تصل المرأة إلى مراكز القرار، فتظلّ مجرّد تابع لا يؤدّي إلّا الوظائف الهامشية التي تتوافق مع طبيعتها وتكوينها كامرأة ضمن خطاب يعمل على ترسيم تلك التبعية بإكسائها ثوباً تقدّمياً. 

خلُصت إلى أن الحركة النسوية في حدّ ذاتها مراقبة للذات وللآخر

وتؤكّد شولي أن طبيعة هذا الضمير ليست أخلاقيّة، فهو لا يرتكز على مجموعة من القيم التي تستوي في الانقياد إليها المجتمعات البشرية باعتبارها منظومة مبادئ سامية تتوافق مع الفطرة، وإنما هو ضمير مجتمعي لُحمته أصواتٌ داخلية يتشكل نسيجها من الملاحظات والتعليقات التي يسوقها الرجال بأسلوب السخرية أو المنافسة أو التحقير والمجاملة الباردة. فهو بمثابة "تأنيب" دائم تشعر به المرأة في المجتمع الغربي لأنها لم تتمكّن من الارتقاء إلى مستوى توقّعات الرجل الجمالية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. وهذا ما أطلقت عليه في العنوان الفرعي "معوّقات الوجود"، لأنها تَحول دون تحقيقها أيَّ وجود سوي.

منى شولي - القسم الثقافي

تقسم الصحافية السويسرية هذه المحاولة إلى خمسة أقسام: عالجت في القسم الأول الجذور المسيحية - اليهودية التي صاغت نظرية "الخطيئة الأُولى"، تلك التي ارتكبتها حوّاء باعتبارها مغوية آدم ومخرجته من الجنّة. وعلى مرّ العصور، طاولت هذه التُّهمة كلّ بناتها اللواتي اعتُبرن صورةً مُصغّرة عنها. ولئن كان التذكير بثقل هذا الإرث الديني مهمّاً في تشخيص أسباب "تشيئة" المرأة، فإنه يخفّف من الضغط الذي طالما مُورس على الإسلام، الذي يُتّهم زوراً بأنه أكثر الديانات ازدراءً للمرأة وانتقاصاً من شأنها. وهذه نظرة ذكية من الصحافيّة، حيث تُوجّه الأنظار إلى الجذور الأصلية الأُخرى لهذا التحقير، بعيداً عن الاتّهامات الرخيصة التي تُكال ظلماً لديانة الآخرين وثقافاتهم. 

وخصّصت القسم الثاني لتلك الأوامر التي تَحول دون "الحياة"، حيث يقوم مسار التنشئة الاجتماعية على إرهاق الفتاة بالقيود التي تجعل منها كياناً معوّقاً لا يتصرّف بالتلقائية التي يعيش بها الرجال، ممّا يحوّل الحياة إلى مجرّد لعب أدوار ثانوية. وأما القسم الثالث، فتناول القيود التي تُفرض على المرأة - الأم، منذ حملها ووضعها وتربيتها للنشء، وما يُلصق بهذه المهمّة من تمثّلات دينية أو اجتماعية تجعلها دائماً في قفص الاتهام مع تعطيل مسيرتها المهنية. وفي الجزء الرابع، تعرّضت صاحبة "الساحرات" (2018) إلى العوائق التي تُظهر خصوصاً في الأوساط المهنية حيث تُعامل المرأة كأداة إنتاج تتوقّف قيمتها على ما تتمكّن من تقديمه وسط منافسة قاسية وإقصاء مستمرّ من زملائها الرجال. 

تنقد صوت المرأة الداخلي الناجم عن تراكمات اجتماعية وثقافية

وأخيراً، ختمت الصحافية السويسرية الفرنسية محاولتها باستقراء الصراع النسوي الراهن وحركة تحرّرهنّ ومكافحة مظاهر القهر والازدراء وخلصت إلى أن الحركة النسوية هي في حدّ ذاتها مراقبة للذات وللآخر. بل إنّها تتحوّل أحياناً إلى قوقعة مُظلمة تخنق المناضلات بسلسلة من الأفكار الخاطئة والتصوّرات المعتلّة التي لا تخرج عن نفس مسار التصارع والمنافسة، وهو أيضاً ممّا يعوقها عن الوعي الموضوعي بالواقع. 

هذا، وقد اعتمدت شولي في متابعة هذه الأوضاع على الدراسات والإحصاءات والتقارير التي لا تني تصدرها مختلف الجهات والهيئات في فرنسا للمطالبة بتحسين وضعية المرأة وتغيير ظروف عملها. فتوصّلت، من خلال هذا الاستقصاء، إلى أن المعتدي لا يوجد خارج الذات، فليس هو فقط الطرف المسيطر الذي يُمارس العنف ظاهراً، بل المرأة هي ذاتها من تُمارس الضغط بشكل مبطن. 

لذلك، توجّهت بالنقد إلى هذا الصوت الداخلي الذي ينبع من باطن المرأة نتيجة تراكمات اجتماعية وثقافية عميقة. يلومها ويستهين بكل ما تفعله، وهو ما يهينها ويحطّ من قيمتها. ويتأكّد هذا الإجراء إذا كانت المرأة تنتمي إلى أقلّية إثنية أو دينية، لأنها تتعرّض حينها إلى عنف مزدوج. 

ولا مفرّ من توجيه النقد في هذه النقطة تحديداً إلى الكاتبة لأنها لم تصوّر بالقدر الكافي من الوضوح والصراحة ما تتعرّض له النساء المسلمات في فرنسا - كائناً ما كانت أصولهنّ عربية أو أفريقية أو آسيوية - من اضطهاد وقمع. وأبسط مظاهر هذا الاضطهاد منع ارتداء الحجاب، واشتراط خلعه لمزاولة الوظائف الحكومية، وحظر مرافقة الأبناء في الرحلات المدرسية، وغيرها من المظاهر التي رسختها قوانين صارمة حرمت بسببها نساء كثيرات من ممارسة أدنى حقوقهن الأساسية، كحرية الملبس والتنقّل والعمل تحت ذرائع واهية مثل "مقاومة الانفصالية" و"محاربة الإرهاب".

إلا أن صوت منى شولي لم يرتفع بالقدر الكافي، بل إنها صمتت عن إدانة الاضطهاد المُضاعَف الذي تتعرّض له النساء اللواتي لا يعشنَ على أنساق الموضة المتسارعة ولا يشاركنَ في التنافس المحموم من أجل التفوّق والظهور الاجتماعي، وإنما يُعانينَ من عراقيل واقعية تَحول دون العيش كالمواطنات الأُخريات وتحرمهنّ من أبسط الحقوق. فمُعيقات الوجود التي وصفتها شولي تخصّ أساساً الفئة المتنفّذة، وهي عينها التي تُعاني من إكراهات النسوية وضغوط المنظومة الرأسمالية. وأما مواطناتهنّ المُسلمات فيعشنَ هذه العوائق مضاعفة مغلّظة، لأنهنّ يتعرّضنَ إلى المنع والتضييق بالاعتماد على مقولات التحرّر ومكافحة الازدراء الذكوري. 

انتظرنا من الصحافية، ومواقِفُها مشرّفة، أن تكسر قيود الرقابة وأن تدفع توصيفها المفيد إلى حدوده القصوى، فستجد أن وخز الضمير وجلد الذات لدى النساء المُسلمات ينبع من الاضطهاد المزدوج، وهو الذي ينبغي أن تُفكَّك أسبابه حتى نصل إلى نواة العنف الأُولى القابعة في منظومة الاستعمار وترجماته الحديثة: المركزية الأوروبية والليبرالية المتوحّشة. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون