مقامات للحِداد وأُخرى لتجاوزه.. حصاد لبنان الثقافي لعام 2024

02 يناير 2025
من منزل في النبطية جنوبي لبنان بعد وقف إطلاق النار 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عام 2024، تعرض لبنان لعدوان إسرائيلي مدمر أدى إلى استشهاد أكثر من أربعة آلاف شخص، وتزامن مع استمرار العدوان على غزة، مما أثار احتجاجات واسعة في بيروت تضامنًا مع القضية الفلسطينية.

- ركزت المطبوعات اللبنانية على قضية فلسطين، حيث أصدرت "المفكرة القانونية" عددًا خاصًا، وخصصت مواقع مثل "الراوية" صفحاتها للقضية، بينما رصد "استديو أشغال عامة" آثار النزوح والقصف.

- شهد المشهد الثقافي رحيل الروائي إلياس خوري واغتيال حسن نصرالله، مما أثر على الساحة السياسية والثقافية، مع دعوات للتضامن والصمود.

الحرب هي المُفرَدة التي طغَت ووسمَت الحياة في لبنان خلال 2024. عدوانٌ مُدمِّر شنّه الاحتلال الصهيوني على البلاد مستكملاً حربه الإبادية على غزّة، بدأ في الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر، ولم ينتهِ حتى صباح السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. أيامٌ كلُّ ما قبلها وما بعدها يدور حولها ويؤدّي إليها، ولم تُغلَق قوسُها إلا بعد أن تجاوز عدد ضحاياها الأربعة آلاف شهيد، بمن فيهم أولئك الذين قتلتهم "إسرائيل" بعد أن فُتحت الجبهة اللبنانية في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

ومنذ مطلع العام، قلّما توقّفت في بيروت التظاهُرات والمَسِيرات المُندِّدة بالإبادة في غزّة، حينها كان العُدوان في شهره الثالث، فتنادت، في التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير، أصواتٌ شبابية ومُنظّمات ناشطة لتوجيه تحية لبلاد مانديلا على موقفها السياسي الداعم للقضية الفلسطينية، وقفةٌ اتّخذت من مقرّ سفارة جنوب أفريقيا عنواناً لها، بعد أسبوع من جلسة عقدتها "محكمة العدل الدولية" في لاهاي للنظر في الدعوى المرفوعة ضدّ كيان الاحتلال بتُهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزّة.

كذلك ركّزت المطبوعات والمنشورات والمواقع الإلكترونية اللبنانية خلال 2024 على قضية فلسطين، فأصدرت مجموعة "المفكّرة القانونية"، بالتزامُن مع انعقاد جلسات الدعوى، العدد الحادي والسبعين من مجلّتها، متناولة فيه انعكاسات العدوان الصهيوني على لبنان، إلى جانب أبرز المستجدّات القانونية والقضائية، كما خصّصت ملفّاً لـ"ما ولّدته الحرب على غزّة من حروب موازية في الفضاء العامّ والقانون، وعلى صعيد العلاقات الدّولية والحقوق الأساسية والقِيم الديمقراطية". ومثلها خصّصت مواقع إلكترونية يُنتجها كتّابٌ شباب، مثل مجلّة "الراوية"، جُلَّ صفحاتها للإضاءة على قضية البلاد، في حين استكملت باحثات "استديو أشغال عامة" نشاطاتهنّ في مجالات رصد البُنية الخدمية وأثر النزوح، والمواقع والبلدات التي تتعرّض للقصف الإسرائيلي، عبر أوراق بحثية ومُسوحات ميدانية وتقارير صدرت بشكل دوري عبر موقع الاستديو الإلكتروني.

وقّع إلياس خوري ثلاث افتتاحيات عن غزّة قبل رحيله

عدنية شبلي وأروندتي روي الصوتان النسويّان والكاتبتان المعروفتان، حلّت كلٌّ منهما ضيفةً على بيروت، الأُولى في أُمسية قدّمتها الباحثة والناقدة زينة الحلبي، وعُقدت في "دار النمر" في الثامن والعشرين من آذار/ مارس الماضي، تحت عنوان "الكتابة وأطياف المحو"، ضمن جولة بيروتية قدّمت فيها الروائية الفلسطينية عدّة ندوات. والثانية حين التقت الروائية والناشطة السياسية الهندية بالمؤرّخ فواز طرابلسي في أُمسية عُقدت في العاشر من حزيران/ يونيو الماضي، حيث وصّفت صاحبة "جائزة Pen Pinter" المشهد الفلسطيني الراهن بثلاث كلمات: الفصل العنصري والاحتلال والإبادة.

على مستوى التشكيل والمعارض الفوتوغرافية، شهد لبنان مواعيد عديدة، منها: "أمير غزّة الصغير" الذي اتّخذ من منحوتة الفنان شوقي شوكيني (1946) البرونزية، التي أنجزها عام 2010، عنواناً للمعرض الجماعي الذي أُقيم في "مؤسسة رمزي وسائدة دلّول"، وتواصَلَ طيلة الشهرين الأوّلين من عام 2024. كذلك أقامت "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، الصيف الماضي، معرضاً جماعياً آخر بعنوان "غزّة"، في حين قدّمت المُصوّرة الفوتوغرافية الفلسطينية شذى حنايشة معرضاً حول مدينتها جنين، رصدت من خلاله واقع "الإبادة المُصغَّرة" التي تخضع له المدينة المحتلّة.

ومن بين كلّ ما سبق وكلّ ما سيلي، وكأنّه بفداحة حرب موازية أُخرى لا تقلّ مرارة، شكّل رحيل الروائي إلياس خوري في الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر الحدثَ الأبرز في المشهد الثقافيّ بأَسْره. صاحب "باب الشمس" ورئيس تحرير مجلّة "الدراسات الفلسطينية"، وصديق فلسطين الحقّ، الذي وُلد في تاريخ نكبتها عام 1948، أطبَق عينيه الإطباقة الأخيرة لا ليُعلن رحيل فرد بل ختام مرحلة، وختام شكلٍ عهدناه للبنان والمنطقة يختلف بالضرورة عمّا سيأتي. وقّع خوري ثلاث افتتاحيات من الدورية الفصلية التي يرأسها حول غزّة وأصدر كتابه الأخير "النكبة المستمرّة" فيما حربُ الإبادة تتوسّع وتتمدّد شيئاً فشيئاً، وما هي إلا أيام بعد رحيل الروائي حتى انفلَتَ عقال العدوان الأبشع على الإطلاق، بعد قرابة عام من حرب عُرفت بـ"الإسناد"، حيث أغرقت "إسرائيل" بيروتَ أولاً بـ"تفجيرات البيجر" الإرهابية، يومَي السابع عشر والثامن عشر من أيلول/ سبتمبر، قبل أن تشنّ هجوماً جوّياً دموياً، في الثالث والعشرين منه، خلّف أكثر من 450 شهيداً، ومعه بدأت الحرب بشكل "رسميّ".

منذ اليوم الأول لعبت الجمعيات الثقافية والفاعلون الثقافيون والمؤسسات الأهلية دوراً تضامنياً قويّاً. صحيح أن مظاهر الحياة وغالبية الأنشطة الثقافية قد قُتلت سريعاً، لكنها استمرّت بشكل آخَر حين تحوّلت الفضاءات والمسارح لملاذات للمُهجَّرين، كان حالُ المشهد "خليّة نحل"، يبدو المصطلح "كليشيه" لكنّه حقيقي ولا يفي الكثيرين/ات حقّهم/نّ وصمودهم/نّ طيلة أيام الحرب. تماسُكُ اللبنانيين/ات خلال أيام الحرب كان حالة اجتماعية بحدّ ذاته، يمكن أن تُقرأ وترصَد ثقافياً ويُكتب عنها لاحقاً، فالتعويل على حَلِّ صيغة الاجتماع اللبناني والإضرار بها، وتأليب عناصرها ضدّ بعضها كان جزءاً من الرهان الإسرائيلي. الثقافة في النهاية بالملموس على الأرض لا بالفضاء والكلام. وأيّ شيء أفضل من أحوال اللبنانيين واللبنانيات في أيام الحرب الأخيرة يُمكن أن يوصّف ويؤخذ بمثابة عيّنة عن هذا المصطلح "الثقافة". نعم ما كنّا لننجو لولا كلّ هذا التضامن.

قتلت إسرائيل الراحل عبد الحميد بعلبكي مرّة ثانية بنَسْفها بيتَه

وإذا كانت أيّام الحرب الإسرائيلية على لبنان هي محور أحداث عام 2024، فإنّ الليلة الخامسة منها تبقى الأشدّ مركزية، حين اغتال الاحتلال الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر. حدثٌ نرانا نقرأه هنا في حصاد ثقافي إذ لا يُمكن عزله في طبيعته السياسية أو العسكرية فقط، فالرجل باسمه وسيرته ظلّ عنواناً لمرحلة مديدة من حيواتنا، والحال بحزبه بعد هذا أنه "لم يكن صَرحاً من خيال.. ولكنّه هوى"، كما كتبت دلال البزري. بل إنّ قراءة سياقية مُنصِفة عن حال الثقافة بأبعادها في ظلّ هيمنة "حزب المحور" على مُقدّرات لبنان وجزء من سورية، سنجدُ أنها قد انكمشت وباتت ترديداً لبيانات ومواقف حزبية ضيّقة بطريقة غَيبيّة، وبَصماً جماهيرياً بالعشرة لا مساحة للشكّ فيها، حتى لا نقول الديمقراطيةّ، فهذه طبعاً أكبر الخطايا.

اليوم انتهت الحرب، وخفَت صوتُ التهديد والوعيد الداخلي ليكشف عن كارثة إنسانية ووطنية فادحة، وأُولى أرضيّات المُراجَعة والمحاسبة والمساءلة - إن قُيّض ذلك طبعاً - ستكون ثقافية، انطلاقاً من أسئلة: ماذا جنينا؟ ولماذا حدث ما حدث؟ وأيّ أخلاقية ومشروعية للسلاح وحاملوه لم يدَعوا قرية وبلدة سورية إلّا وجعلوا "طريق القدس" (طريق المصالح الإيرانية) يمرُّ فيها؟ وضمن هذا السياق، حسناً فعلت دار "رياض الريّس" إذ أعادت مؤخّراً طَبْع كتابَين من مؤلّفات الباحث وضاح شرارة: "دولة حزب الله لبنان مجتمعاً إسلامياً" و"الأُمّة القلقة: العامليون والعصبية العاملية على عتبة الدولة اللبنانية"، وفيهما إضاءة وافية على دولة الحزب وعصبيته الرافدة.

أخيراً، إن كان من ضِفّة قد اتّسعت في لبنان 2024 فهي الرحيل والأُفول، نحن اليوم أمام بلد مُتَّشح بالسواد حِداداً على أبنائه وبناته، وحداداً على فقرائه الذين قتلتهم ونكّلت بهم "إسرائيل"، بعد أن تخلّت عنهم سياسات الطائفة والمُحاصصة والارتهان. لكن أيضاً، وطالما أنّ مقام القول ثقافيٌّ وفنّيٌّ، لا بدّ من استذكار أبرز الراحلين عن المشهد: التشكيليون حسين ماضي وإيفيت أشقر وسامية عسيران، والمحلّل النفسي مصطفى حجازي، والناقد السينمائي وليد شميط. كما نستذكر القتل الثاني، إن جاز التعبير، الذي تعرّض له صاحب لوحة "دير ياسين" (1973) التشكيلي والشاعر عبد الحميد بعلبكي، بعدما دمّر الاحتلال بنسفه بلدة العديسة الجنوبية، بيته المتحفي، حيث دُفن وزوجته. ولعلّ كلمات ابنه التشكيلي أُسامة بعلبكي التي صرّح بها لـ"العربي الجديد"، حين التقته للتعليق على الحدث، تُسعفنا من أجل سعي صوب النهوض ثانيةً، وهي خيرُ ما نختم به، نقول مع أسامة: "لا خيار أمامنا سوى المعنويات العالية. لن نكون موطناً للأفكار الفاسدة، وللإحساس أنّنا مغلوبون. الجرائم التي تُرتكب لا يظنّ أحدٌ أنها تُؤدِّب الشعوب، على الإطلاق، ويجب ألّا نرتجف أمامها".

 

المساهمون