تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "أعتقد أن فهم التوجُّهات السياسية للكاتب جزءٌ من مهمَّة التعرُّف على الكاتب وهو شيء ضروري قبل الترجمة"، يقول المترجم المصري في حديثه مع "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
بدأت حكايتي مع الترجمة الأدبية عن الإنكليزية بترجمةِ مقالاتٍ عِلمية لا سيّما الطبّية منها. ترجمتُ مقالة "دماغ مُشتعِل: شهرٌ من الجنون" لـ سوزانا كهالان، الذي كان نواة كتابها الذي يحمل العنوان نفسه. ثم شرعت في ترجمة فصول من الكِتاب ثم رشّحته لـ "دار أثر" فتحمّس مديرها للكِتاب وتبنّى نشرَه. أمّا الترجمة الأدبية عن الكورية فقد كانت لها علاقة وثيقة برغبتي في ترجمة عمل أدبي يتناول "انتفاضة غوانغجو" (1980)، التي تأثّرتُ كثيرًا بها عندما قرأتُ عنها ضمن بحثٍ كنت أُجريه عن الحركات الطلّابية والجامعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ مثل "مظاهرات باريس أيار/ مايو 1968"، والمظاهرات في اليابان التي قادها يوكو ميشيما. ووقتها قرأت رواية "أفعال بشرية" لـ هان كانج، وأُغرمتُ بها وبالبناء السردي المُبتَكَر للرواية؛ إذ تقع في سبعة فصولٍ وبسبعة رواةٍ مختلفين. فتواصلتُ مع "دار التنوير" التي تمتلك حقوق الكاتبة وبدأت رحلتي مع ترجمة هان كانغ وغيرها من الأعمال الكورية.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
آخرُ ما نُشر لي من ترجمات رواية "المتآمرون" للكاتب الكوري الجنوبي كيم أون سو، وهي رواية فلسفية تعتمد على الكوميديا السوداء، تُقارن كثيرًا بأفلام تارانتينو. وقد صدرت عن "دار المحروسة للنشر". كما انتهيتُ من ترجمة عملين أتوقّع صدورهما قريبًا: رواية "درس إغريقي" للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ، صاحبة رواية "النباتية" التي صدرت بالكورية عام 2007، وهي ضمن مشروع ترجمتي لأعمال الكاتبة مع "دار التنوير"، بعد روايتيها "الكتاب الأبيض" (2019)، و"أفعال بشرية" (2020). وكتاب "قتلوا أبي أوّلًا" للكاتبة الكمبودية لونج أونج، وهو سيرة ذاتية عن حياة لونج الطفلة مع أسرتها خلال فترة حكم جماعة "الخِمِير الحُمر" لكمبوديا في السبعينيات، يصدر الكتاب عن "دار كلمات" الكويتية. كما أُراجع ترجمة رواية "الضيف" للكاتب هوانج سوك يونج، وهي رواية عن فصل دموي من فصول "الحرب الكورية" (1950 - 1953) وعن مواجهة أشباح الماضي. وهي رواية ذات طابع سوريالي تناقش السياسية والدين والاشتراكية بصورة نقدية. وتصدر الرواية عن "دار الكتب خان" بمصر.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
عقباتٌ مادّية وعقبات تتعلّق برفاهية الوقت، فمعظم المترجمين يشتغلون بمهنٍ أُخرى. والتفرّغ في الترجمة مهمٌ لإعطاء كلّ كتابٍ حقّه من القراءة والترجمة ثم المراجعة.
نحتاج إلى مترجمين أكثر، لكن بالضرورة متمكّنين من أدواتهم
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
دائمًا ثمّة من يحرّر أعمالي. لا بدّ دائمًا من عيٍن ثانية تقرأ النص المترجم قبل تسليمه للدار، وعادة ما يكون صديقًا. معظم الدُّور التي عملت معها لديها محرّرون، وإنْ كانوا يتفاوتون في الكفاءة. والتحرير موهبة وإبداع وهو يختلف تمامًا عن التدقيق اللُّغوي أو استبدال كلمة بأُخرى.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
أنا محظوظ بكلّ ناشر عملتُ معه. سواء من حيث ثقتهم في اختياراتي أو من حيث اقتناعهم بترجمة أكثر من عمل لنفس الكاتب حتّى يتعرّف القارئ على مشروعِ الكاتب الأدبي ككّل وتطوّره من عملٍ إلى آخر.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
لا اعتبارات سياسية في اختياري لما أُترجمه. لكن لا يمكن إغفال السياسة كعاملٍ مؤثّر على الزمان الذي تدور فيه أحداث النص. وهو شيءٌ لا بدّ من الإلمام به. رواية "أفعال بشرية" لـ هانج كانج مثلًا دفعتني للقراءة كثيرًا عن تاريخ كوريا منذ انتهاء "الحرب الكورية" وحتى بداية الألفية الجديدة. "انتفاضة غوانغجو" (1980) التي تتناولها الرواية لا يُمكن النظر إليها بمنأىً عن السياسة. جرائم "الخِمِير الحُمر" في كمبوديا سياسة. لا يمكن فصل أبعاد السياسة عن الأدب، وإن كان الأدب الجيد يتجاوز حدود السياسة من أجل الغوص في ما هو إنساني. أعتقد أن فهم التوجُّهات السياسية للكاتب جزءٌ من مهمَّة التعرُّف على الكاتب وهو شيء ضروري قبل الترجمة لا سيّما لو كان الكاتب معروفٌ بانخراطه في السياسة، وإدلائِه بالكثير من التصريحات السياسية مثل هوانج سوك يونج الذي تعرّض مثلًا لحُكمٍ بالسجن لمدّة سبع سنوات لزيارته كوريا الشمالية دون تصريحٍ عام 1993 للترويج للتبادل الثقافي بين مُبدعي الكوريّتين.
لا يمكن إغفال السياسة كعاملٍ مؤثّر على زمان وأحداث النص
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
كنتُ محظوظاً بالتواصل مع بعض الكتَّاب الذين ترجمت أعمالهم مثل سوزانا كهالان، ولونج أونج، وكلتاهما نجَت من مأساة عظيمة. لكن في العموم علاقتي بالكاتب تكون من خلال النصِّ المكتوب، وهي علاقة إنسانية يمتزج فيها التعاطُف بالإعجاب.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
العامل المشترك بينهما شغفٌ باللُّغة وغرامٌ بفنّ الحكي. لكن ليس كلُّ مترجِم جيّدٍ كاتباً جيّدًا. وليس كلُّ كاتبٍ جيدٍ مترجمًا جيدًا. وثمّة خلط كبير بين الاثنين في عالمنا العربي مؤخّرًا. الترجمة تزيد من محصّلة المُبدع اللغوية، وتعرّفه على حبكاتٍ وطُرق جديدة في بناء الرواية لكنّها قد تضر الكتابة الإبداعية؛ إذ إنها مُشبِعة للكثير من احتياجات الكاتب لا سيما لو كان النص الذي يعمل على ترجمته يُعجبه لدرجة التماهي معه والإحساس بأنه يُعيد كتابتَه. كلٌّ من الكِتابة والترجمة تحتاج إلى تفرّغٍ وقتي وعقلي، والعمل في كليهما في الآن نفسه من وجهة نظري يضرّ بإحداهما أو كليهما.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
جوائز الترجمة في العالم العربي مُهمّة من الناحية المادّية، ومن ناحية رغبة المترجِم - مثله مثل أي مبدع - في الحصول على اعترافٍ بعمله. لكن جوائز الترجمة ما تزال قليلةً، وضيّقة في معايير الاختيار. فمعظمُها لا يُمنح لترجمة الرواية، ومقصورة على مجال الإنسانيات والعلوم والكتب غير الروائية في العموم.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
لم أتعامل مع مثل هذه المشاريع لكن أعتقد أنها جميعًا تعاني من البيروقراطية والنمطية والتخبُّط، حيث أرى من الضروري أن تكتفي بتقديم المِنَح لدُور النشر الخاصة، وكذلك مِنح التفرّغ للمُترجمين مثل الإقامات في بيوت الترجمة دون التدخّل بشكلٍ مباشَر في عملية النشر.
التحرير موهبة ويختلف عن التدقيق أو استبدال الكلمات
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
محاولة أن يكون النصّ المترجَم صادقًا إلى أكبر درجة لأسلوب ورُوح النص الأصلي، دون إشعار القارئ بأنّ النص مكتوب بلغة أُخرى. أحاول بقدرِ الإمكان ألّا أفقدَ شغفي بالنص من خلال الاستماع للكتاب الصوتي، ومشاهدة حوارات الكاتب على اليوتيوب، والفيلم المقتبس عن الكِتاب إن وُجِد. وعادةً ما يكون لكلّ كتابٍ قائمةُ أغانٍ وموسيقى خاصّة به.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لا أعتقد أن ثمّة نصًّا ندمتُ على ترجمته. لكن الآن ومع تقييم ذاتي لتجربتي بعد ترجمة عددٍ معقول من الكُتب، أرى كتبًا ترجمتُها منحتني معرفةً ومتعةً عقليةً ولغويةً وسرديةً أكثر من غيرها. وهو ما يجعلني أكثر انتقائية مع الوقت في اختياري لِما أترجم.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
استمرارية الترجمة وكفاءتها، ورفاهية الوقت، والعائد المادي والمعنوي للمترجِم، ووجود نقد حقيقي، وغربلة صادقة للمُترجِمين. نحن متأخّرون في حركة الترجمة. وما يزال عدد الكتب المترجمة سنويًا قليلًا جدًا. نحتاج إلى زخم في حركة الترجمة، وهو ما يعني مترجمين أكثر، لكن بالضرورة مؤهّلين ومتمكّنين من أدواتهم.
بطاقة
طبيب ومترجم مصري من مواليد المنصورة عام 1992. من ترجماته عن الإنكليزية "دماغ مشتعل" لـ سوزانا كهالان (2021)، و"قتلوا أبي أولًا" لـ لونج أونج، و"بحر السكينة" لـ إيميلي سانت جون مانديل (يصدران قريباً). وعن الكورية "الكتاب الأبيض" (2019)، و"أفعال بشرية" (2020)، و"درس إغريقي" لهان كانغ (2022)، و"راقصة البلاط" (2022)، و"سأكون هناك" (2021)، و"فتاة كتبت العزلة" لـ كيونغ سوك شين، و"المتآمرون" لـ كيم أون سو (2022).