تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "نعيش الحرب الصهيونية العالمية الأُولى"، يقول الباحث والمترجم اللبناني في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- هاجسي كيف يمكن نسف هذا العجز الذي يكبّل العرب، أو القيود التي يكبّلهم بها حكّامهم، لمنعهم من أن يهبّوا لنصرة فلسطين وأهل غزّة، بل لمنعهم من أن يهبّوا لنصرة أنفسهم في الوقت نفسه، لأنّ سقوط غزّة هو سقوط العزّة، سقوط العواصم العربية، وسقوط كلّ عربي أينما كان.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- بعدما كنتُ وأبناء جيلي، الذين ناضلنا طوال نصف قرن من الزمن، نكاد ننسى لا القضيّة الفلسطينية فحسْب، بل القضيّة العربية برمّتها، جاءت مقاومة غزّة وكأنّها هديٌ هبط علينا من السماء ليهدينا ويعيدنا إلى سواء السبيل، ويعيد لنا جذوة النضال بكلّ اتّقادها التي كدنا أن نفقدها، وأعاد لنا رشدنا الذي كنّا نكاد نفقده.
مقاومة غزّة أعادت لنا رشدنا الذي كنّا نكاد نفقده
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- إذا كانت الكلمة رصاصة، والريشة إزميلاً، والوتر "درون" أو قمراً طائراً، فإنّ الإبداع سلاح يؤازر السلاح، ولا يحلّ محلّه.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- أريد من هذا العالم أن يقف كلّ إنسان في وجه المشروع الذي تسعى الصهيونية العالمية إلى فرضه بالقوّة على العالم أجمع، وقد شرعت بتنفيذه وحشدت له كلّ إمكاناتها وقواها الإعلامية والمالية والعسكرية والدبلوماسية، في هذه الحرب التي تشنّها لا على فلسطين وحدها، أو على غزّة فقط، بل على كل المؤيّدين لفلسطين في العالم قاطبةً، والتي يجب أن نسمّيها باسمها الصحيح: "الحرب الصهيونية العالمية الأُولى"، التي تريد الصهيونية العالمية من ورائها تغيير وجه الإنسانية بتغيير قيمها الأخلاقية والدينية، وتغيير طبيعة الإنسان نفسه بواسطة الذكاء الاصطناعي الذي تزعم أنه لجميع البشر، في حين أنّه سلاح لها وحدها.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- الشخصيات المقاومة للظلم أكثر من أن تُحصى في تاريخ البشر، يمكن أن نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر: المسيح والحسين ومانديلا... لكنّ الأكثر التصاقاً في ذهني هي صورة غيفارا عندما ألقى خطاباً في الجمعية العامة للأمم المتّحدة، فكان أقصر خطاب في تاريخ البشر، وأغنى خطاب في آن معاً، وكان خطابه كلمتين فقط: "الوطن أو الموت"، قالهما ثم ترك المنبر وانصرف.
تريد الصهيونية العالمية تغيير وجه الإنسانية بتغيير قيمها
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- أصحاب العقول المتحجّرة توهّموا أنهم قادرون على إعادة غزّة إلى العصر الحجري. خسِئوا؛ غزّة مثالٌ حيّ يُجسّد "المدينة الفاضلة" كما تَصوّرها الفارابي، ومدينة "حيّ بن يقظان" التي تعيش بمفردها بقواها الحيّة، كما تَصوّرها ابن طفيل، حين تعزّ عليها مساعدة البشر. يعيش فلسطينيّو غزّة على وقع جميع العصور: عصر التكنولوجيا باستعمال السلاح الذكّي بمهارة فائقة؛ والعصور الوسطى (لا كهرباء ولا وسائل اتّصال أو وسائط نقل)، والعصر الإنساني والأخلاقي الآخذ في الانقراض في هذا العالَم، والذي تنفرد فيه غزّة.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- أرجو من كلّ عربي أن يراجع مقرّرات "مؤتمر لندن" (1905 ـ 1907)، لكي يفهم على نحو أفضل ما تشهده المنطقة العربية منذ أكثر من قرن من الزمن؛ ففي مطلع القرن العشرين، كانت الدول الاستعمارية الأوروبية تعلم أنّ المنطقة العربية إذا خرجت عن السلطنة العثمانية، فستكون أقوى دولة في العالَم، نظراً لغناها بالثروات المادّية، والعقول الكبيرة، والموقع الاستراتيجي، والتراث التاريخي، واللُّغة المُوحِّدة؛ وكانت بريطانيا عازمة على القضاء على السلطنة قبل وقوع الحرب العالمية الأولى (1914)، فدعت تلك الدول إلى مؤتمر عُقد في لندن (1907) لبحث التدابير التي يجب فرضها على المنطقة، قبل قتل "الرجل المريض" (وبالفعل تمّ القضاء عليه بعد سبع سنوات فقط)، كي لا تقوم فيها دولة تجمعها وتُوحّدها، فكان أوّل تلك التدابير إنشاء كيان فاصل ("إسرائيل") بين مصر وسورية، وتجزئة المنطقة إلى "دويلات" يتحكّم فيها ذلك الكيان.
بطاقة
باحث ومترجم لبناني من مواليد بيروت عام 1945، ويُقيم في باريس. حاصلٌ على دبلوم دراسات معمّقة في سوسيولوجيا الأديان من "معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية" في باريس. عمل أستاذاً للّغة العربية في "معهد العالم العربي" بباريس، وباحثاً في "مؤسّسة الفكر العربي" ببيروت. ترجم من الفرنسية إلى العربية خمسة عشر كتاباً، من بينها: "الإسلام معطّلاً" (1992) لـ فريدون هويدا، و"سوسيولوجيا الفنّ" (2001) لـ ناتالي إينيك، و"بحثاً عن حداثة عربية" (2009)، و"تاريخ الإسلام منذ نشوئه حتى ظهور السلطنة العثمانية" (2010) لـ كلود كاهن، و"المدينة الدولة في الزمن القديم" لـ فوستيل دو كولانج، كما نشر العديد من الدراسات والبحوث في صحف ومجلّات عربية.