الثالثة من فجر الثلاثاء (21 تشرين الثاني/ نوفمبر)... أستيقظ، بعد غفوات قصيرة، وضيق نفَس متكرّر.
أيأس من إمكانية العودة للنوم، فأقوم في الرابعة، لآخُذ الأدوية، فأُفطر، ثم أفتح على صحف أوروبية، جرت العادة على تصفّحها، قبل قراءة قسم الثقافة في "العربي الجديد".
أفتح النسخة الورقية، وأقرأ عن استشهاد صديق العمر، الصحافي والشاعر مصطفى الصوّاف.
يا له من خبر على الفجر! يا لها من مفاجأة، متوقَّعة لكلّ إنسان يحيا على تراب القطاع، ومع هذا تضع يدك على قلبك، ويزداد الاختناق، إن كنت تعرف الشهيد عن قرب.
ذكريات عمر بدأت منذ عام 1992، وكان وقتها مراسل جريدة "النهار" المقدسية في القطاع، ومدير مكتبها.
أراد حواراً مطوّلاً في الشعر، ورفضتُ كالعادة أيضاً، لكنه أصرّ وبعث بحزمة من الأسئلة، فوجدت أنه، بخلاف من يجرون الحوارات ولا يعرفون عن المُحاوَر شيئاً، قد بذل جهداً وقرأ كتباً.
وافقت، وقد آنست منه في غير جلسة، مدى صدقه ونبله وشفافيته وودّه، مع رقّة حال المكتب، وهكذا بدأت بيننا صداقة، انقطع حبلُها برحيلي عن البلاد.
كان ذات يوم وكيل وزارة الثقافة، وبصدد إصدار مجلّة تُعنى بالأدب، فاتصل وطلب مادّة.
لم أرفض، رغم اختلافي الهائل مع أيديولوجيا حماس، في تلك الفترة القريبة من عام 2007.
لم أرفض، وهو بادر، رغم متابعته لما أكتب، ومعرفته أنّني آلمت كباراً من رفاقه، في عشرات المقالات حينها، وكانوا يشكون من ذلك، بكلّ عتب ولطف، والله يشهد.
لقد غطّى على عيني عماء يساريّتي آنذاك، واليوم، يا مصطفى أنا نادم.
لو كنت أدري ما وراء الغيب، لدافعت عنكم بالدم قبل الحبر.
يا مصطفى النبيل... ولكم شهدت منكم في مجال الثقافة، نبلاء وشفّافين، ومثاليّين، يحلم بهم كلّ شاعر.
طراز من بشر عضويّين أعطوا أرواحهم لله والوطن، حرفياً، ودفعوا الغالي في حياتهم وفي مماتهم، ولم ينكصوا.
فماذا يريد أمثالي أكثر؟
واليوم، أذكّر من لا يعرف من المثقّفين العرب، أنّ غالب قادة هذا الفصيل العظيم، استهلّوا حياتهم شعراء وروائيّين ومسرحيّين، أصدروا كتباً، لكن أعباء السياسة، ابتعدت بهم: من إسماعيل هنية ويحيى السنوار (جاري في المخيّم)، إلى أحمد بحر (استشهد في هذه الحرب)، ومحمود الزهّار وعطاالله أبو السبح، وقبلهم محمد الضيف، ابن حارتي أيضاً، وكان قد بدأ حياته كفتى، ممثّلاً مسرحياً، يكتب النص ويمثّله ويُخرجه على خشبة مسرح "نادي خدمات خانيونس"... وعشرات غيرهم لا يتّسع لذكرهم المقال.
أفكّر في كل ذلك، وأتذكّر شاعر تونس، العزيز خالد النجار، عندما زار غزّة، في مايو 2012، ورحنا في جولة على مباني الجامعة الإسلامية (أفضل جامعة في القطاع دمّروا مبانيها قبل أيام)، فكلّم الحرّاس البسطاء، مؤكّداً نصرهم، مهما نُكّل بهم، وكيف أنّي يومها، همست لروحي يائساً: يا رب.
أفكّر في كلّ ذلك، وأتذكّر: "أبو خالد الضيف"، ابن مخيّمي وحارتي، الفقير مثلنا، وهو يمثّل مسرحيّتَين، كتبهما، وكان هذا عام 76 أو 77 من القرن المنصرم.
أفكّر وأتذكّر كيف زارنا في وزارة الثقافة، إسماعيل هنيّة، رئيساً للوزراء بعد فوز حماس الساطع في الانتخابات (2006)، ولما قدّمني له الوزير والشاعر عطاالله أبو السبح، شاعراً، راح يسمعني شعراً تفعيليّاً وخليليّاً، مما كتب في المعتقل.
لكم أخطأنا بحقّكم أيها الناس الشرفاء، القابضين على الجمر، واليوم يتأكّلنا الندم.
لقد أيقظنا طوفان الأقصى (هذه العلامة الفارقة في نضال شعب كان مرشّحاً للنسيان)، بعدما كنَسَ ركام الأوهام، وعنف الأيدولوجيا، حين تُباعد بين أبناء الدم الواحد والمصير الواحد.
أطلب من روحك المغفرة يا مصطفى، وقد اصطفاك رب الناس أخيراً في خير مقام.
* شاعر فلسطيني مُقيم في بلجيكا