خلال شباط/ فبراير من كلّ عام، تُقام في كثير من المدن الأوروبية، والغربية بشكل عامّ، مظاهر عديدة للاحتفال كانت مرتبطة بفترة الصيام الكبير والتحضيرات لعيد الفصح، ثمّ جرت علمنتها وصارت مظهراً ثقافياً في الغرب.
أحدُ أبرز تلك الاحتفالات، وأكثرها بهرجاً ومحافظةً على التقاليد والمظاهر القديمة، هو الكرنفال الذي يُقام في مدينة كولونيا الألمانية، ويجذب سنوياً آلاف المشاركين والسيّاح. وإحدى أبرز معالم هذا الاحتفال مسيرة "اثنين الورود"، والتي قد تصل إلى طول ثمانية كيلومترات، وتضمّ العديد من المشاة المتنكّرين والفرق الموسيقية، بالإضافة إلى الكثير من العربات، وتجذب سنوياً مئات الآلاف من المتفرّجين.
تُستقى الموضوعات التي تُبرزها العربات، عادةً، من أحداث راهنة أو ذات صلة بالثقافة الشعبية أو تقاليد المدينة والولاية. وهذه المرّة، ظهرت في المسيرة عربةٌ بعنوان "زيارة السيّدة العجوز"، يُفترَض أنها تناقش مسألة "انتشار معاداة السامية" في المجتمع الألماني "من جديد"، لكنها حملت عنصرية وإساءة مقيتَتين للفلسطينيّين وقضيتهم.
كثيراً ما انتُقدت مظاهر العنصرية وتنميط الآخر في المهرجان
تُجسّد العربة ما سمّاها أصحابُها "السيّدة العجوز"، وهي تتوشّح الكوفية أو "الوشاح الفلسطيني" كما يسمّيها الألمان، وتُمسك بإحدى يدَيها حبلاً تشدُّ به كلبين وُضع عليهما علم فلسطين وكُتب على أحدهما "كراهية" وعلى الآخر "عنف"، بينما يُقبّل يدها الأُخرى شاب أشقر (يُفترض أنّه يرمز إلى الشباب الألماني) وُضعت على ظهره لافتة كُتب عليها: "عادت إلى مجتمعنا" في إشارة إلى "معاداة السامية".
لم تكُن تلك العربة الوحيدة المسيئة؛ فقد ظهرت في المسيرة أُخرى تحمل رجلاً بملابس عسكرية، كتبت على إحدى ذراعيه عبارة "حماس"، ويدفع "أُسرة مدنية" أمام دبّابة رُسمت عليها نجمة داود.
ويُشار هنا إلى أنّ المشارَكة في هذه الاحتفالات لا تتمّ إلّا بعد الحصول على موافقة "لجنة مهرجان كولونيا"، والتي وتُراجع طلبات المشاركة المقدَّمة لـ"ضمان توافقها مع العادات والتقاليد"، وتدعو الفرق والجمعيات إلى المشاركة في المهرجان ومسيرة "اثنين الورود".
أثارت العربتان امتعاضاً في ألمانيا؛ حيث اعتبرهما كثيرون مسيئتَين للفلسطينيّين وتنمّ عن قلّة احترام لحرمة الدم الفلسطيني النازف الآن في غزّة، فقد عبّر أحد النشطاء قائلاً: "بينما قد يتوقّع أحدنا أن تُؤجَّل هذه المظاهر الاحتفالية والرقصات والموسيقى احتراماً للدماء الغزيرة التي تسقط في فلسطين، فقد جاء المشاركون ليُشيطنوا الضحايا ويجعلوا التضامن معهم والدعوة إلى حمايتهم جريمة، وليحاولوا تأليب المجتمع عليهم وتخويفه منهم".
لا ينعزل هذا السلوك عن الأسلوب الذي اتّبعه كثير من فئات المجتمع الألماني في التعامل مع العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيّين، وذلك بالتركيز فقط على المشكلة الألمانية التاريخية المتمثّلة في "معاداة السامية"، فقد حاولت النخب الألمانية فرض نظرية تتمثّل في أنّ هذه المشكلة صارت من الماضي تماماً، وأنّ المجتمع الألماني اليوم تجاوز تاريخه وتغلّب عليه. وقد كان الدعم المطلق لـ"إسرائيل" على مدى السنوات الماضية أحد أهمّ المظاهر التي تستخدمها النخب الألمانية لإقناع العالَم بهذه الفكرة. ومع تجاوُز الجرائم الإسرائيلية الأخيرة كلّ تصوُّر، وانتشار الوعي عند الكثير من الشباب الألماني بخطورة هذه السياسة التي تجعل ألمانيا شريكةً في عملية الإبادة، أصبح من الصعب على هذه الفئات الاستمرار في هذه السياسة واستعمال الدعم المطلق لـ"إسرائيل" في غسل التاريخ الألماني.
مزاعم بعودة "معاداة السامية" من باب التضامن مع فلسطين
هكذا، وبدل محاولة فتح الصفحة من جديد، وبحث العلاقة مع "إسرائيل" بالكامل، تحاول هذه النخب اليوم أن تُلصق تهمة "معاداة السامية" - التي تعلم أنّها لا تزال منتشرة بين النازيّين الجدد واليمينيّين الذين ترتفع أسهمهم في الفترة الأخيرة - بكلّ مظاهر التضامن مع الفلسطينيّين، وتدّعي أنّ "معاداة السامية" مسألة "دخيلة" على المجتمع الألماني المُعاصر، وأنّها "عادت" مع التدفُّق الكبير للاجئين من أبناء الشرق الأوسط.
وهنا، يُشار أيضاً إلى التناقض العجيب بين العربتَين، والذي لم يلتفت إليه المنظّمون، وهو: إن كانت حماس، كما يدّعي مصمّمو العربة الثانية، تَستخدم المدنيّين الفلسطينيّين كدروع بشرية أمام الدبّابات الإسرائيلية، فكيف يكون التضامُن مع هؤلاء والمطالبة بحمايتهم وإيجاد حلّ سلمي لهم دعوةً إلى الكراهية والعنف كما تشير العربة الأُولى؟
هذا التوصيف العام وربط الكوفية الفلسطينية والعلم الفلسطيني بالكراهية والعنف، يُظهر، كما عبّر نشطاء، محاولةً لتحريف الخطاب وتبرير القمع والإلغاء اللذين يتعرّض لهما المتضامنون مع القضية الفلسطينية في ألمانيا.
يُذكَر أنّ كثيراً من فعاليات هذا المهرجان كانت، في السنوات الأخيرة، عرضة للانتقاد، لما تضمّنته من عنصرية وتنميط لشعوب وأمم أُخرى؛ مثل "البلاك فيس" والتنكّر بالملابس التقليدية للسكّان الأصليّين للأميركتَين.
ولطالما كان تنظيم هذه الاحتفالات والمشاركة فيها محصوراً على الألمان البيض، وخصوصاً من سكّان الريف، وذلك ما يجعل من مشاركة الوافدين وأبنائهم فيها أمراً صعباً، وهو ما يُشعرهم في كلّ المواسم بغربة فكرية في هذا البلد الذي يعيشون فيه وربما يحملون جنسيته.