بحلول عام 1891، حطّ أحمد شوقي رحاله في فرنسا لدراسة القانون في "جامعة مونبيليه" في فترة كانت تزخر بالنزعات الرومنسية والرمزية والعودة للكلاسيكية وغير ذلك من تيّارات الإبداع. في ذلك الخضم، تعرّف شوقي على المسرح، وقد كانت القاعات الفرنسية لا تفتأ تقدّم أعمالاً مستلهمة من نصوص بيير كورناي وجان راسين وفكتور هوغو وموليير، وشكسبير أيضاً. وهؤلاء كانوا يكتبون المسرح شعراً بما يعني أنهم - ومن دون أن يعرفوا - قد وضعوا فضاء يلتقي معهم فيه الشاعر المصري، ومن جهته لم يترك الإشارة تمرّ من دون أن يلتقطها ويبدأ في صياغة مشروع ينهل فيه من ذاكرته الثقافية (تاريخ مصر والتراث العربي) يقوم على ملامسة مواطن الحدّة الدرامية التي يمكن توظيفها في نصوص مسرحية مادتها الشعر.
كانت المحاولات الأولى لكتابة هذا النوع الأدبي في البلاد العربية قد بدأت منذ سنة 1873 مع صدور مسرحية "المروءة والوفاء" لخليل اليازجي، التي تدور أحداثها في زمن ملك الحيرة النعمان بن المنذر، وتوالت نصوص أخرى اعتمد كتّابها على النثر المسجوع والنظم الخالي من الشعرية، إلى جوار تجارب لأبي خليل القباني ومارون النقاش اللذين توجّها نحو السيرة الشعبية.
كتب شوقي مسرحية "علي بك الكبير" (أو دولة المماليك) وهو لا يزال في باريس، وأرسل نصّها إلى الخديوي توفيق الذي لم يستسغ آنذاك شكل الكتابة الجديد، ما جعلها تبقى حبيسة الأدراج حتى بويع صاحبها بإمارة الشعر عام 1927، فقرّر إعادة كتابتها ودفعها للنشر.
كان من الصعب تحويل نصوصه إلى مسرح بالمعنى الأدائي
كان من الواضح أنّ شوقي قد استوعب بنية المسرح الكلاسيكي الأوروبي في ذروة تطوّره، مستعيراً الوحدات الثلاث (وحدة الحدث، ووحدة المكان، ووحدة الزمان)، وسار على هديْ شكسبير في المزج بين التراجيديا والكوميديا، والشخصيات النبيلة والعادية، وتمرير وجهات نظر متعدّدة في صُلب العمل الواحد.
كان من الصعب تحويل تلك النصوص إلى مسرح بالمعنى الأدائي، فلم تكن مصر كفرنسا التي توجد فيها مؤسسات فنية ترعاها الدولة أو الأثرياء، وتضم شبكة من المخرجين والممثلين يمكنهم احتواء أيّ نص وتجسيده بل وتحبيب الجمهور فيه مهما بلغ تعقيده. في مصر نهاية ذلك القرن، لم يألف الجمهور المسرح بعد، وتلقاه بادئ الأمر كوسيلة ترفيه، وهو ما أعاق أكثر تذوّق فن المسرح الشعري الذي يقترحه شوقي، ولعلّه لم يجر تذوّقه أبداً، إلّا في بعض محاولات تلحين مشاهد مقتطعة أبرزها أوبريت مجنون ليلى الذي أدّاه كلّ من محمد عبد الوهاب وأسمهان.
كان من الواضح أنّ شوقي يريد أن يسدّ الفجوة المسرحية بين الثقافتين؛ فلم يكتفِ بالمآسي التاريخية، وهي أعلى ما يقدّمه المسرح الكلاسيكي، بل وضع أيضاً أعمالاً في قوالب الكوميديا الاجتماعية مثل "الست هدى" و"البخيلة" وهنا حاول الارتقاء بالمفردات والتراكيب البسيطة، والمستمدّة أحياناً من الدارجة المصرية، إلى مصاف المفردة الرفيعة والجزلة، في تجريب لم يعرف تقديراً من النقّاد.
بدت معظم هاته المحاولات مثل مغامرات خارجة عن عصرها، ولولا الثقة التي حازها شوقي بفضل مكانة شعره ربما كان سيحجب مسرحياته الشعرية عن النشر، وليس صدفة أنّ هذه الأعمال قد صدرت بين 1927 و1932 أي بين سنة تكريمه بإمارة الشعر وسنة الرحيل، انتقل خلالها بين مستويات عدة من القول فمناخات "مجنون ليلى" و"عنترة" بعيدة كلّ البعد عن "قمبيز" و"مصرع كليوبترا" والتي تمثّل ذروة مقدرة تطويع الشعر للمسرح وفيها اشتغال على بناء شخصية كليوباترا في مأساتها بين الحب والوطنية، بما في ذلك من ضرب للأمثال موجّهة للمعاصرين وتغذية للثقافة العامة بالمادة التاريخية وقبل كلّ شيء إثبات قدرة تطويع العربية لشكل فنّي معقّد أغرى شعراء آخرين لاحقاً مثل عزيز أباظة وعلي أحمد باكثير وصلاح عبد الصبور، لكنّ مساهمات هؤلاء - مثلها مثل مساهمة أحمد شوقي - لم تؤدّ إلى تأصيل فن المسرح الشعري عربياً فبقيت مجرّد محاولات تعبّر عن طموحات بعض المثقفين العرب في لحظة من لحظات الحلم التي عرفتها ثقافتنا المعاصرة.