أحمد شوقي الذي أُدخل المتحف ولم يغادره

31 أكتوبر 2021
تمثال أحمد شوقي في فيلا بورغيزي بروما، إيطاليا
+ الخط -

أية مقارنة مع فيكتور هوغو؟ في الظاهر هوغو شاعر كبير وروائي كبير، وشوقي شاعر كبير لم يمارس سوى قرض الشعر وكتابة المسرح الشعري وله في النثر أعمال لعل أهمّها كتابه "أسواق الذهب"؛ ولكن نثره نُسي ولم يعد له تأثير يذكر، على نقيض شعره الذي عبَر الزمن وتغلغل في وجدان الناس، وسرى مسرى الأمثال والحكم المتداولة فأنت تستقل التاكسي، وفي دردشة سريعة مع السائق الذي يشكو تدهور أخلاق أهل زمانه وإذا به يفاجئك بقوله في لكنةٍ شبه عامية وتحريف غير مقصود: إنما الأمم الأخلاق إذا بقيت الأخلاق... هكذا يورد صدر البيت: "وإنما الأمم الأخلاقُ ما بقيتْ/ فإنْ هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا". وآخر وفي سياق آخر يذكر "كاد المعلّم أن يكون رسولا" وقد نسي متن البيت: "قُم للمعلّم وفّه التبجيلا/ كاد المعلّم أن يكون رسولا".

ما يجمع بينهما أنهما يعبّران عن روح أُمّة: فيكتور هوغو عنوان الأدب الفرنسي منذ عهدة ستراسبورغ (وهو النص الذي يُعد ميلاد اللغة والنثر الفرنسي) إلى القرن العشرين. ظل هو الرمز والعنوان حتى أن موقع الأدب الفرنسي على الشبكة العنكبوتية موسوم بصورة فيكتور هوغو. وأحمد شوقي هو أيضاً ختَم في شعره حقبة من الأدب العربي امتدت من العصر الجاهلي حتى عصره، عصر سامي البارودي وحافظ إبراهيم وخليل مطران. وكان شوقي درّة هذا العصر ورمزه. 

حرص شوقي أن يكون امتداداً للتراث الأدبي الأعلى

يتنزّل شعر شوقي ضمن التقليد الشعري العربي، ظلّ خديناً للمتنبي، شاعره المفضل، وللبحتري وأبي تمام وأبي نواس ومهيار الديلمي لغة، وبنية، وتصوّراً للشعر. بتعبير مختزل كان شوقي امتداداً للتراث الأدبي الأعلى؛ وكان في الآن القوس الذي أغلق هذا الإرث. وإن استمر الشعراء العرب في التمسك بعمود الشعر بيد أن فهمهم وتصورهم للخلق الشعري تحوّل من التراث العربي الكلاسيكي إلى الشعر الغربي الذي صار مرجعيتهم الروحية وكانت أولى المعارك ضد شوقي تلك التي خاضها الثلاثي العقاد والمازني وشكري وتلخّص ذلك في كتاب "الديوان" (العقاد، 1914) والذي كان عبارة عن مانيفستو مرجعيته النقد الإنكليزي ممثلاً في وليم هازليت وتوماس هاردي، ثمّ صار الشاعر الفرنسي لامارتين مرجعية الجيل اللبناني وكلهم تقريباً تباروا في نقل قصيدة "البحيرة"، كما تبارى جيل الخمسينيات والستينيات الذي كانت مرجعيته متمثلة في شعر إليوت وإيزرا باوند في ترجمة "الأرض الخراب". 

دخل شوقي المتحف الشعري كأيقونة نادرة متوحدة ولم يغادره. لا أثر لهذه الأيقونة ولا امتداد لها في الأجيال التي تلته والتي اختارت كمرجعية شعراء آخر القرن التاسع عشر ممن عاصرهم وهو طالب في باريس؛ كان يجلس في مقاهي الحي اللاتيني ويمر من أمامه رامبو وفيرلين ولكن روحه ظلت متعلقة بسماء البيد وقمره، بحماسة أبي تمام وبأشعار المتنبي ومهيار الديلمي وغيرهما وأقصى ما أخذه عن الشعر الفرنسي مسرح راسين الشعري الذي نرى أثره في مسرحياته الشعرية.

دخل شوقي المتحف الشعري كأيقونة نادرة متوحدة ولم يغادره

فيكتور هوغو أيضاً أيقونة فرنسا الأدبية؛ لم يترك أثراً في الشعر الفرنسي المعاصر بالقدر الذي تركه بودلير هو الذي استمر أثره في القرن العشرين؛ بل رامبو نفسه متح من شعر بودلير وهذا الأمر يتكرر في تاريخ الأدب الألماني حيث أثر الشاعر هولدرلين في الأدب الحديث يتقدم على أثر العملاق فولفغانغ غوته. 

نتذكّر من شوقي تمثاله في حديقة فيلا بورغيزي بروما شاهداً على اعتراف عالمي بعظمة هذا الشاعر العربي الذي ولد بباب إسماعيل (أي قصر الخديوي إسماعيل) وتغنّت أجيال بشعره بيد أن الشعر العربي الحديث اتخذ منحى تطورياً بعيداً عن عالم شوقي وحساسيته.


* شاعر ومترجم من تونس

موقف
التحديثات الحية