تذكر المرويات الشعبية أنّ أوليا جلبي رأى في منامه النبي محمد، وكان ذلك في ليلة عاشوراء من سنة 1630، وبدلاً من أن يطلب الشفاعة تلعثم لسانه بكلمة السياحة ليحصل على مباركة نبوية لرحلاته التي جاب فيها أكثر من عشرين بلداً خلال نحو نصف قرن، ووثّقها في مؤلَّف لا يزال يُعدّ من عيون أدب الرحلات حول العالم.
واقعةٌ دفعت الرحّالة العثماني (1611 - 1684) إلى التخلّي عن طموحه السياسي، والتفرّغ لأسفاره التي حقّق أقصى فوائده منها، على هدي من سبقوه من الكتّاب في التاريخ الإسلامي الذين أرسوا تقاليد أدبية للكتابة عن تجوالهم ورحلاتهم، وكتب عنها جامعاً بين متعة السرد وسعة المعارف التي عبّر عنها جلبي، مستفيداً من دراسته التاريخ واللغة والدين والفنون في بلاط السلطان مراد الرابع.
"سياحتنامه أوليا جلبي: مختارات عن بلاد الألبان" عنوان الأجزاء التي ترجمها وقدّمها بدراسة الكاتب والمؤرخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط من أصل عشرة مجلّدات، وصدرت حديثاً في كتاب عن "الآن ناشرون وموزعون"، وهي لا تقدّم صورة شاملة عن تاريخ ألبانيا خلال القرن السابع عشر وعن جغرافيتها وثقافة مجتمعها فحسب، إنما تعيد ما انقطع من صلات بينها وبين العرب منذ بداية القرن الماضي.
مرجع تاريخي عن ألبانيا خلال الحكم العثماني
يشير الكاتب إلى أنّ جبلة بن الأيهم دُفن في مكان بالقرب من مدينة إلباسان، وأن الألبان يأتون لزيارة ضريحه لاعتقادهم أنه جدّهم الأعلى، وقد رصفوا حجارة كبيرة فوق قبره استمرّت طويلاً، مقدّماً رواية حول فراره إلى بلاد الروم من عقوبة عمر بن الخطاب بعد أن فقأ جبلة عين أحد المسلمين.
يفنّد الأرناؤوط في تقديمه هذه الرواية التي لم ترد في أيّ مصدر محلّي أو لدى أيّ رحالة سوى جلبي، موضّحاً أنه ربما سمع شيئاً من الألبان عن صلة لأسلافهم بالشرق، وهي معلومات قد تكون مبنية على الرواية المتعلّقة بجدّهم المفترض إلير، التي تقول الأسطورة إنه ابن الأمير قدمس ملك فينيقيا، الذي أرسله أبوه للبحث عن أخته في أوروبا، وبالتالي يبدو أن ابن الأيهم حلّ بدلاً من قدمس.
كما أن تلك الأسطورة التي ترد في الكتاب، لا تستقيم مع حقائق التاريخ؛ إذ ينسب الألبان جبلة إلى قريش في روايتهم، بينما هو ملك الغساسنة الذي يختلف المؤرّخون حول إسلامه، ويتّفق معظمهم على أنه خرج مع جيوش هرقل وعاش في بلاد الروم حتى رحيله، بالإضافة إلى أن تراث معظم الشعوب غير العربية التي أسلمت يحتشد بأخبار عن علاقات قرابة لهم مع عرب الجزيرة، ما يعكس رغبة في صلة تجمعهم بالعرب، وهو ما يعني مكانة ورفعة سياسية واجتماعية أكبر آنذاك.
تتعدّد مستويات التلقّي لأسفار جلبي، حيث يجد القارئ أنّ مشاعره الدينية وحماسته للإسلام لا تتعارض مع تناوله طقوس الترفيه والتسلية عند الألبان وتفصيله لأنواع الشراب وصنوف المتع لديهم، وهو لا يجد فصلاً بين الجانبين الروحي والدنيوي في حديثه عن معالم المدن الألبانية وطبيعة الحياة الاجتماعية فيها.
وعلى الرغم من تقديم حقائق تاريخية وجغرافية دقيقة، وكذلك الإسهاب في وصف السياق الإداري والعمراني في مجموعة من الولايات العثمانية، إلا أنه يمكن التعامل مع الكتاب بوصفه واحداً من أبرز التعبيرات الفنية في زمانه، وربما حتى اليوم، ما تكشفه اللغة التي يَكتب بها المؤلّف، وأسلوب التشويق الذي يتّبعه في سرد الأحداث والمعلومات، وإظهاره جانباً من الطرافة والظرف في نقلها، وتقصّده التنويع في رواياته شكلاً ومضموناً، بما يمنح المتلقّي متعة إضافية.
جلبي الذي قام بمهمات دبلوماسية وسياسية في عدد من رحلاته ممثّلاً للأستانة، يركّز على أدق التفاصيل في تصوير معايشاته للناس الذين يلتقيهم، والمعالم التي يزورها، طوال صفحات الكتاب، حيث يميّز بين أعراق سكّان المدن التي زارها، واللغات التي يتحدّثون بها، والأزياء التي يرتدونها، ومنتجاتهم من الأطعمة والفاكهة، ويُقدّم أرقاماً دقيقة، وأحياناً تقديرية، لأعداد الساكنة والموظّفين والجنود والإداريين والمحلّات التجارية ومساحات الأراضي وغيرها، والرواتب الشهرية، ما يعكس حرصه على عرض معلومات وإحصائيات تهمّ البلاط السلطاني أو جهات رسمية معيّنة.
في زيارته لإحدى المدن الواقعة على نهر درين، يلفت المؤلّف إلى أن اسمَها، الإسكندرية (شكودرا)، يشترك مع اسم مدينتين أُخريَين تابعتين للعثمانيين، هما الإسكندرونة التي تتبع ولاية حلب، والإسكندرية في مصر، حيث أسّس الحواضر الثلاث الإسكندر المقدوني، ثم ينتقل إلى وصف قلعتها وجندها وتجهيزاتهم العسكرية بالتفصيل، وهو أمر متكرّر في معظم المدن الألبانية التي لعبت حينها دوراً بارزاً في حرب مملكة البندقية بإيطاليا.
ثمة اهتمام غربي متزايد بالكتاب دراسةً وترجمة
نالت رحلات جلبي اهتماماً كبيراً لدى الغرب بسبب تصويرها لحظةً كانت الدولة العثمانية تعيش نهاية تقدّمها في القارة الأوروبية؛ حيث سبقت هزيمتهم في معركة فيينا. وقد استحوذت عليه الرغبة في فهم تلك المرحلة بعد عثور المستشرق النمساوي جوزف فون هامر على أربعة مجلّدات منها، فظّن أنها كلُّ "سياحتنامه"، فنشر مختارات منها بالألمانية عام 1814، ثم نشرها في مجلّدين بالإنكليزية بعد ذلك لتدخل التاريخ مع إقبال المستشرقين الغربيّين على دراستها وترجمتها إلى لغات عديدة، كما يبيّن الأرناؤوط في تقديمه، لافتاً إلى أنّ تزايد الاهتمام بها خلال السنوات الأخيرة، فلا تمرّ سنة دون نشر دراسة أو ترجمة جديدة إلى لغة من اللغات. ومن هذه الإصدارات الجديدة ما يخصّ مختارات من الكتاب تتعلّق بجوانب تاريخية واقتصادية وثقافية واجتماعية للبلدان التي زارها جلبي.
قد تستحوذ هذه المختارات المترجمة على اهتمام عربي وألباني أيضاً، لما تكشفه من تصوُّرات تبّناها الألبان حول أصولهم ولغتهم وتاريخهم قبل أكثر من ثلاثمئة عام تصلهم بالعرب قبل أن يطاولها المحو الثقافي على يد النظام الشيوعي الذي حكم البلاد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بالتزامن مع حملة هدم لعشرات الجوامع والأوابد الإسلامية التي لم يعد لها أثرٌ في الواقع، وظلّ وصف ماضيها حاضراً في كتاب جلبي.
يُكرّر الكتاب بأنّ أصل الألبان ينحدر من أحد بطون قريش، لذلك فهُم لا يزالون يستخدمون في لغتهم كلمات عربية، وأنّ هذه اللغة تشكّلت من خليط عربي وإفرنجي، وهي تسمّى لغة الأرناؤود أو عارنابود بالفارسية، على ما يروي بعض المؤرّخين.
إلى جانب افتراض الأصل العربي للألبان، يرى الأرناؤوط سببين آخرين لأهمية نقل الكتاب إلى العربية؛ الأوّل يتعلّق باكتشاف جلبي لمجتمع مسلم مختلف عمّا رآه في رحلاته؛ ففي الوقت الذي جال فيه ألبانيا، كان الإسلام ينتشر بين الألبان ليشمل الغالبية حتى نهاية ذلك القرن. وبعبارة أُخرى، كان الألبان في حالة انتقالية دينية وثقافية واجتماعية مع انتشار الدين الجديد، ولكن في الوقت نفسه دون أن يفقدوا خلفيتهم الوثنية أو المسيحية.
ويكمن السبب الثاني في غنى الكتاب بالمعطيات المختلفة عن بلاد الألبان من خلال توثيقه للحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت في بلاد الألبان خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر - إذا تجاوزنا بعض مبالغات جلبي الواضحة - إذ كان صاحب "سياحتنامه" مهووساً بالتفاصيل في وصف المنشآت العسكرية (والمدن والأسواق والمنشآت الاقتصادية والدينية والتعليمية وغيرها)، حتى أنّ كتابه أصبح لا غنى عنه لمن يكتب عن ألبانيا والألبان خلال الحكم العثماني.
تبقى ملاحظة أخيرة حول ما تعنيه بلاد الألبان بالنسبة إلى جلبي الذي يعتمد التعبير العثماني الذي يشمل مناطق تنتمي اليوم إلى دول البوسنة وكوسوفو وصربيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، غير أنه لا يغفل الفوارق الإثنية واللغوية والجغرافية بين كلّ هذه المناطق.