استمع إلى الملخص
- ينتقد الأنصاري الإصلاحيين العرب لتركيزهم على التخلّف العلمي دون الاعتراف بالتخلّف السياسي، مشيراً إلى ضعف القيادات في بناء نظم مستقرة وتدهور الأداء الإداري والاقتصادي.
- يدعو الأنصاري إلى تأسيس علم سياسة عربي للتعامل مع الظروف الخاصة بالعرب، مشدداً على أهمية الفهم المعرفي للمشكلة، ويعتبر الكتاب جزءاً من مشروع أوسع لدراسة السوسيولوجيا السياسية.
يطرح محمّد جابر الأنصاري، الذي غادر عالمنا قبل أيام، هذا السؤال في مستهلّ كتابه "العرب والسياسة: أين الخلل؟" (دار الساقي، 1998)، مُعتبراً أنّه "سؤال الأسئلة في الحياة العربية" التي يقول إنّها تُعاني غالباً من "أنيميا سياسية" من حيث التطبيق والنظُم والممارسة، منذ التأزّم المبكر للخلافة الراشدة ووصولاً إلى الإجهاض السياسي لمشروعات النهوض العربي.
ثمّة ملاحظةٌ أساسية ينطلق منها الكاتب البحريني (1939 - 2024)؛ مفادُها أنّ التألُّق الروحي والعقلي والعمراني للحضارة العربية والإسلامية يُقابله فشلٌ ذريع في السياسة؛ حيث إنّ "تاريخها السياسي ظلّ أضعفَ عناصرها على الإطلاق وأشدّها عتمة"، و"إذا تأمّلنا في التاريخ الحضاري للعرب، نجده غنّياً بعطائه إلّا في الجانب السياسي!". وهو، هنا، يُصرّ على ضرورة الاعتراف بأنّ هذه الحالة بدأت قبل الإمبريالية والصهيونية، وأنّ ما تفعله تلك القوى لا يزيد عن "استثمارها وتوظيفها لأبعاد تلك الظاهرة العربية الذاتية المترسّخة". أمّا الاكتفاء بهذا التفسير، فهو محض "انسياق أيديولوجي" لا يُؤدّي إلّا إلى مزيدٍ من مطبّات الهروب إلى الأمام، بينما المطلوب هو "اختراق معرفي للسياسة قبل إعادة امتلاكها".
يأخذ الأنصاري على الإصلاحيّين العرب، الذين تناولوا مسألة التخلّف، تركيزهم على الحديث عن التخلّف العلمي ونظائره في الحياة العربية، في مقابل ندرة الاعتراف بواقع التخلّف السياسي فيها، الذي يُشدّد على أنّ له أسبابه الموضوعية، وأنّه ليس مرتبطاً بمثالب ذاتية متأصّلة في العرب، لكنّه، في الوقت نفسه، يُشكّل "بنية عامّة في المجتمعات العربية تطاول السياسة والمعارضة على السواء، وتُعبّر عن واقع القاع السوسيولوجي العربي بمختلف فئاته وقطاعاته في حقيقة بُناها وعلاقاتها التقليدية الجامدة التي لم تخضع - بعدُ - لتطوير تحضيري حقيقي".
محاولةٌ معرفية في البحث عن جذور التردّي السياسي العربي
إنّها حالةٌ من الإنكار التامّ لمشكلة السياسة عربياً تندرج ضمن حالةٍ أعمّ. يعتقد محمّد جابر الأنصاري أنّ "هناك مشكلة قائمة بين العربي وبين تقبُّله للحقائق والوقائع القائمة، حتى لو حاصرته"، ويستشهد بمقولة ساخرة للشاعر والناقد الفلسطيني محمّد الأسعد (1944 - 2021): "عندما تبدأ في محاورة أيّ أيديولوجي عربي، فعليك قبل كلّ شيء أن تُثبت له وجود العالم لأنّه غير وارد ضمن معطياته". وكما في أيّة حالةٍ مَرَضية، فإنّ الأنصاري يعتقد أنّ الدواء يبدأ أوّلاً بإيلاء هذه الحالة المزمنة والمقيمة ما تُحتّمه من اعتراف بوجودها وخطورتها البالغة، ثمّ الشروع في دراستها بما تستحقّه من تشخيص معرفي علمي وموضوعي.
وفي معرض تشخصيه حالةَ القصور السياسي العربي العامّ الرسمي والشعبي، يشير الأنصاري إلى أنّها تنعكس في ناحيتَين: تتمّثل الأُولى في "عدم توفُّر القدرة القيادية العامّة على توليد النظُم والمؤسّسات اللازمة ورسم التوجّهات السياسية على المدى الطويل وتثبيت الاستقرار والاستمرار لكيان الدولة ضمن صيغة مرنة وفاعلة من العلاقات بين الحاكمين والمحكومين وبين مختلف أطراف المجتمع السياسي"، بما سبّبه ذلك من انقلابات متتابعة، وتخبُّط في السياسات العامّة، وإقدام على قرارات مصيرية مميتة بتسرُّع وبناءً على حسابات فردية خاطئة، مع اتباع أشدّ الأساليب قهراً من جانب القيادات "الوطنية" و"الشعبية" في التعامل مع أبناء الوطن...
وتتمثّل الناحية الثانية في كون "الكوادر والفئات الوطنية، عندما تسلّمت إدارة الأجهزة الحكومية والمؤسّسات الخدمية والاقتصادية والتعليمية والشركات والمنشآت العامّة، لم تُثبت في إداراتها العملية لها أنّها كانت أفضل من الإدارات الأجنبية، بل على النقيض من ذلك، وجدنا تدهُوراً عامّاً في معظم البلاد العربية لمستوى الأداء في قطاعات الإدارة والخدمة العامّة والاقتصاد والتعليم... ". هذا على الصعيد الرسمي، أمّا على الصعيد الشعبي، فيُسجّل الأنصاري وجود استقالة جماعية من الشأن العامّ؛ فـ"المجتمعات العربية تُعفي نفسها من القيام بواجب الخدمة العامّة (...) وهي ظاهرةٌ قلّ أنّ نجد لها نظيراً في بلاد العالم الأُخرى"؛ بل إنّ "العربي مستعدٌّ للخروج من داره في أيّة مدينة عربية من أجل الجهاد القتالي ضدّ الإمبريالية تظاهراً وهتافاً، لكن من المشكوك فيه استعداده - بالدرجة نفسها - للخروج من داره لتنظيف الطريق أمام تلك الدار".
أنظمةٌ قادرةٌ على هدم ما تريد، لكنّها عاجزة عن بناء ما تريد
وهكذا، لا يكاد الإنسان العربي، وفق الأنصاري، يخرج من حالاتٍ أربع؛ فهو إمّا مناضلٌ ضدّ الاستعمار والسُّلطة، وإمّا متسلّط مستبدّ، وإمّا مضطهَد أو منفيٌّ، وإمّا صامت مقهور ضمن الأغلبية الصامتة في أكثر الأحوال. و"من النادر أن نراه سياسياً يأخذ ويعطي، يتقاسم ويشارك، يدير ويبني، في إطار جماعة سياسية منتظمة وملتزمة من أجل تحقيق هدف سياسي متّفق عليه وممكن التحقيق. وإذا ظهر هذا النوع من الساسة تمّ القضاء عليهم في أغلب الأحوال، وقد يشارك المجتمع بحركاته الشمولية وأيديولوجياته المتصلّبة السلطات في القضاء على هذا النوع".
ولا تتعلّق المشكلة، في توصيف محمّد جابر الأنصاري، بطبيعة الأنظمة الحاكمة في هذا البلد العربي أو ذاك؛ فرغم التباين، بل التناقض الكبير بين الحركات والأيديولوجيات السياسية التغييرية التي مرّت على المنطقة، من تحديثية علمانية، إلى قومية وسطية، إلى دينية أصولية، فإنّ هناك شبهاً كبيراً بينها، يكاد يكون عاملاً مشتركاً ومتأصّلاً وثابتاً فيها جميعاً، يتمثّل في أنّها كانت وما زالت قادرةً على هدم ما تريد، لكنّها غير قادرة على بناء ما تريد. كمثال على ذلك، يستشهد بنكبة 1948 وهزيمة 1967 للقول إنّ الأمر لا يتعلّق بالأنظمة التقليدية "القاصرة"؛ فها هو القصور السياسي يستمرّ مع وصول طبقات وفئات شعبية إلى الحُكم في أقطار عربية مختلفة.
بناءً على ذلك، يرى الأنصاري أنّ الانتقال من أيديولوجيا إلى أُخرى لن يكون ذا جدوى من دون تحقيق فهمٍ معرفي للمشكلة، وذلك بتأسيس علم سياسة عربي، وعلم اجتماع سياسي عربي، قادر على التعاطي الواقعي مع الظروف السياسية في ضوء معطياتها المجتمعية الخاصّة بها. وتحقيقُ ذلك إنّما يتطلّب من العرب إدراكاً بخصوصية تكوينهم السياسي - والتي يُشدّد على أنّها ليست خصوصية تفوُّق واستعلاء، بل خصوصية مثقلة بأعباء التاريخ والمجتمع والجغرافيا - والتعرّف إليها في الوقائع العينية لتجربتهم السياسية، التاريخية والمُعاصرة.
يُشكّل كتاب "العرب والسياسة" جزءاً من ثلاثية اتّجَه فيها محمّد جابر الأنصاري إلى دراسة الجذور التاريخية والجغرافية للسوسيولوجيا السياسية في المجتمعات العربية، ضمن "محاولة معرفية متّصلة الحلقات في البحث عن جذور التردّي السياسي العربي، في الماضي والحاضر، بما يتعدّى هاجس المؤامرة والاكتفاء بإلقاء اللوم على أنظمة بعينها أو قادة بمفردهم". وقد تضمّنت الثلاثية كتابَيه الآخرين: "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية ("مركز دراسات الوحدة العربية"، 1994) و"التأزُّم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام: مكوّنات الحالة المزمنة" (صدرت طبعتُه الثانية في نشر مشترك بين "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" و"دار الشروق" عام 1999).
وهو، إلى ذلك، جزءٌ من مشروع أشمل، بدأه الأنصاري منذ أوّل كتبه مطلع الستّينيات، وشكّل الانشغال بالسياسة في الحياة العربية محوراً أساسياً فيه. ومن عناوينه الأبرز التي قد يُشار إليها في هذا السياق: "تحوّلات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 -1970"، و"تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها"، و"الفكر العربي وصراع الأضداد"، و"مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية"، و"الناصرية بمنظور نقدي: أيّ دروس للمستقبل؟"، و"لقاء التاريخ بالعصر: دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل".
بقي أن نذكر أنّ الكتاب صدر قبل ستّةٍ وعشرين عاماً. وخلال هذه الفترة، ظهرت العديد من المحاولات الجادّة ضمن ما دعا إليه الأنصاري من تأسيسٍ لعلم سياسة عربي. لكنّ الواقع على الأرض ظلّ يزداد تردّياً؛ وهو واقعٌ حذّر منه حين كتب أنّ العرب "لن يغادروا الحالات المؤسفة التي يتابعونها كلّ يوم عن مصير أوطانهم في نشرات الأخبار، وكلّ آتٍ سيكون أكثر مدعاةً للأسف من سابقه للأسف الشديد" إذا لم يجعلوا من التفكير العلمي والمعرفي عمود حياتهم السياسية.