ما يجعل الخيال ممكناً

05 ديسمبر 2020
(تجهيز لـ آي ويوي)
+ الخط -

تفريق وتحديد

لأنّ غالبيّة النصوص الأدبية هي نصوص خيالية، ينشأ خلطٌ يشوّش على التفريق بين الأدبي والخيالي. نصّ سليم بركات "السيرتان" هو نصّ أدبي، لكنّه ليس نصًا خياليًا، إذ يروي الكاتب فيه سيرته الذاتية الفعليّة. في كتاب "موت الأبد السوري"، يقوم الكاتب اللبناني محمد أبي سمرا بسرد شهادات واقعية كابوسيّة لسير سوريين، بلغة لا يمكن وصفها إلا بأنها أدبيَّة، ولكن النص ليس خيالياً. كلّ كتب اليوميات والسير وأدب السجون، مثل كتاب "القوقعة" لمصطفى خليفة، الذي يوثّق يوميات شخصٍ في السجون السورية، بعين تحمل نَفسًا أدبيًا واضحًا، ولكنّها ليست أحداثًا خيالية.

للروائي الأميركي، ترومان كابوتي، نص مشهور بعنوان "بدم بارد" (In Cold Blood) صادر عام 1965، يسرد فيه بروح أدبية تفاصيل جريمة حصلت فعلًا، عمل الكاتب عليها ستّ سنوات. في المقابل، ثمّة أعمالٌ خيالية لم يهيمن يومًا التيار الذي يريد إدخالها خانة الأدب، كبعض قصص الكوميكس، وأعمال "شيرلوك هولمز" للكاتب آرثر كونان دويل، وقصص "هاري بوتر" المعروفة للجميع. ليس كلّ أدبٍ خيالاً، وليس كلّ خيالٍ أدبًا.

قبل البدء، لا بدّ من تحديد موقع النص، إذ لا يدّعي تقديم أي مساهمة في النقد الأدبي، ولا يحمل همّ التقييم الجماليّ. المهمة الأساسية هي محاولة تحديد النقطة الفارقة بين النص الخيالي (Fiction) والنص غير الخيالي (Nonfiction) عمومًا، من منظور فلسفة اللغة. سؤال النصّ الأساسي هو: هل الفرق هو داخلُ بنية اللغة أم خارجها؟ وإذا كان خارجها، فأين بالضبط؟ 
ولأنّ قوّة إقناع فلسفة اللغة، كما يقول لودفيغ فيتغنشتاين (1889- 1951) Ludwig Wittgenstein، تأتي من قدرتها على العمل على أمثلة لغوية عشوائيّة، فإنّ المثالَيْن الوارديْن في هذا النص يستوعبان هذا الشرط، إذْ تم اختيارهما بشكل عشوائيّ. 


محرّر السياسة ومحمد ربيع

المثال الأوّل هو نصّ غير خيالي على شكل خبرٍ صحافي نُشر يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر في "العربي الجديد"، ولأنّ الخبر لا يحمل اسم المحرّر (أو المحرّرة) الذي نشره، سنسمّي كاتبه هو "محرّر السياسة". يرد في النص: "أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، السبت، أنّ فريقه سيستأنف على القرار الذي أصدرته محكمة فيدرالية، الجمعة، وردّت من خلاله الطعون التي قدّمها فريق الرئيس الخاسر في الانتخابات التي جرت في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، على النتائج في ولاية بنسلفانيا ذات الـ20 صوتًا في المجمع الانتخابي، والتي حسم من خلالها خصمه الديمقراطي جو بايدن السباق الانتخابي، قبل أن يعزز فوزه بأصوات ولايات أخرى".

ليس كلّ نص أدبي خيالياً، وليس كلّ نص خيالي أدباً

المثال الثاني هو نص خيالي، على شكل مقطع من رواية "عطارد" للكاتب المصري محمد ربيع (صادرة عام 2015 عن دار "التنوير" في بيروت)، إذ يرد في الفصل المُعنْوَن "عام 2025" في الصفحة 233 ما يلي: "ونسيتُ الثورة المرتقبة والناس المتجمعين في الشارع، وأكوام الجثث والصراخ الباكي يطالبني بالعودة إلى القنص. تركت السطح وأنا أتحسس خطواتي في الظلام وأسرعت في النزول. الشارع مظلم وجثث كثيرةٌ مبعثرة على الأرض، يبدون الآن حقيقيين أكثر من كونهم صورًا من منظار البندقية، بينما وقف الكثيرون يبكون وينوحون حزانى، يرفعون وجوههم نحو الكرة الحديدية، ويصرخون بكلمات لا أفهم أغلبها، كانوا يطالبونني بمتابعة إطلاق النار، كلهم لا يزالون يأملون في رصاصة تأتيهم من السماء". 
أين يقعُ الفرق بين هذه النصّين؟


خارج اللغة

كلاهما، محرّر السياسة وربيع، يستخدمان اللغة بكامل طاقتها الدلالية. لا توجد كلمة في نص محرّر السياسة لا يمكن ألّا يستخدمها ربيع، ولا توجد كلمة في نص ربيع لا يمكن ألّا يستخدمها محرّر السياسة. لا يوجد قاموس خاص لمحرّر السياسة وقاموس خاص لربيع، ولا توجد كلمة مُحتكَرة مسجونة عند أحد الكاتبين. لا يوجد أسلوب كتابي معيّن مفروض حتماً على ربيع، وأسلوب كتابي آخر مفروض حتماً على محرّر السياسة. لا توجد قواعد نحوية أو لغوية خاصّة (Syntactic) عند محرّر السياسة، مختلفة عن القواعد النحوية أو اللغوية التي يستخدمها ربيع. ولا توجد خواصّ نصيّة عند ربيع لا يمكن لمحرّر السياسة ألّا يستخدمها.

المعاني والدلالات (Semantic) لا تنفصلُ عن الكلمات إذا كُتبت في النص الخيالي، ولا تتخلّى الكلمة في اللغة عن دلالتها المعهودة. فربيع يقصد فعلًا شارعًا مظلمًا وكلمة الجثث تعني الجثث، والأفعال المستخدمة تشيرُ إلى معانيها القاموسيّة وتمتلك كلّ طاقتها الدلالية. فإذا كانت الكلمة تنفصلُ عن معناها، وتأخذ معنى آخر كي تُستخدَم في النص الخيالي، سيكون لكلّ كلمة معنى مزدوج، واحدٌ لغير الخيال وواحدٌ للخيال. وقراءة أي نصٍّ خيالي ستحتاجُ إلى قاموس لغوي منفصل، "قاموس الخيال"، يشرح المعاني الجديدة للكلمات التي ستُستخدم في النص الخيالي. هذا أمر مستحيل و"سخيف"، كما يصفه الفيلسوف الأميركي، جون سيرل، إذ لا يحصل أي تغيير في معاني الكلمات عند استخدامها في النص الخيالي. باختصار: اللغة بكلماتها ودلالاتها وقواعدها هي قابلة للاستخدام من قبل الجميع.

بل أكثر، يستطيعُ ربيع أن يستخدم نص محرّر السياسة بأكمله في سياقٍ خيالي يصنعه، كأن يكتب رواية خيالية مُحوّرة عن الانتخابات الأميركية. ويستطيع محرّر السياسة أن يستخدم مقطع ربيع في سياقٍ كتابة خبر صحافي عنه، إذا اعتُقل ربيع بتهمة جنائية حول إذا ما كان مسؤولًا عن عشرات الجثث الواردة في النص أو "خدش الحياء العام". أي أنّ النص غير الخيالي قادرٌ على ابتلاع النص الخيالي وسيكون الناتج نصًا غير خيالي. والنص الخيالي قادر على الإشارة إلى النص غير الخيالي وسيكون الحاصل نصّا خياليًا.

لا تقسيم داخل بنية اللغة نفسها، بين النصّ الخيالي والنص غير الخيالي. أين يقع الفرق إذاً؟ 


الربط العمودي

في مقالته "الحالة المنطقيّة لخطاب الخيال" The Logical Status of Fictional Discourse الصادرة عام 1975، يقوم الفيلسوف الأميركي، جون سيرل John Searle، بأوّل محاولةٍ فلسفية جدية في التفريق بين النصّ غير الخياليّ والنصّ الخياليّ عن طريق التفريق بين مفهومين هما: الأربطة العموديّة والأعراف (أو الاتّفاقات) الأفقيّة. الأربطة العمودية توصِل اللغة المجرّدة بالعالم الفعلي، أيْ أنّها تربط بين: الكلمات والأفعال في اللغة، مع الأشياء والأحداث في العالم. الربط العمودي مثلًا يصل بين كلمة "شجرة" في اللغة، مع الشجرة كشيء في العالم، وبين فعل الفوز في اللغة، مع حدث الفوز في العالم. 

الحدود بين الخيالي وغير الخيالي ليست واضحة دوماً

محرّر السياسة يعمل على إحداث تأكيدٍ واقعي (Assertion)، مُعتمدًا على الأربطة العموديّة، ويجب أن يلتزم بالتالي بشرائع الربط العمودي. إذ مطلوبٌ منه تطابقُ اللغة مع العالم، كأن يقدم أدلة بأنّ دونالد ترامب (الشيء) هو الرئيس الأميركي فعلًا، وبأنّ الانتخابات جرت واقعيًا في 3 نوفمبر (الحدث). كما أنّه ملزَمٌ بالمصداقية الواقعية والقدرة على تقديم الأدلّة والإيمان بحقيقة الربط العمودي بين اللغة والواقع. وإذا انتهك محرّر السياسة شرائع مفهوم التأكيد، كأن يكون غير قادرٍ على تقديم دليل بأنّ الانتخابات الأميركية جرت فعلاً في 3 نوفمبر، فإنّ نصه سيُتَّهم بالكذب والمغالطة.

ولكن كاتب "عطارد" غير ملزم أبدًا بإعطاء أي دليل على أنّ النص يتحدّث واقعيًا عن عام 2025. ولا يجب أن يتعرَّض لأي شكوك أو اختبارات حول إذا ما كانت الأحداث داخل الرواية قد وقعت فعلًا أو لم تقع في العالم. هو غير مُلزمٍ بشرائع الربط العمودي أبدًا. كما أنَّ اتّهامه بالكذب، سيكون فعليًا مثل اتهام الخميني لسلمان رشدي بأنّ "الآيات الشيطانية" هي "تشويه لحقيقة ما حصل". وهذا، باعتقادي، أدق تصحيح قام به فيتغنشتاين لفكرة أفلاطون الشائعة بأنّ "الخيال هو مجموعة من الأكاذيب"، إذ إنّ الكذب هو انتهاكٌ لشرائع الربط العمودي: ما يُكتَب في اللغة، وما يحدثُ في العالم. في المقابل، لا تأثير لشرائع الربط العمودي في تقييم النص الخيالي، لأنّ كاتب النصّ الخيالي غير مُلزمٍ بها.


العُرف الأفقي

فعليًا، ما يجعلُ الخيال ممكنًا، هو مجموعة من الأعراف الأفقية (Conventions) المصنوعة بين البشر، تسمَحُ بكسر الأربطة العمودية بين اللغة والعالَم. التفريق ضروري: الأعراف الأفقية هي مُتغيّرة وتُصْنَع على شكل اتّفاقات بين البشر، والأربطة العمودية هي ثابتة وتصل بين اللغة والعالم. ولا تغيِّر الأعرافُ الأفقية الأربطةَ العمودية، بمعنى أنّها لا تمسُّ المعاني القاموسيّة الحرفيّة للأفعال والكلمات. تسمحُ الأعراف الأفقيّة لمؤلّف النص الخيالي بامتلاك ميّزتين: الأولى، استخدام اللغة دون القلق من التزامات شرائع التأكيد التي يفرضها الربط العمودي (الشرائع هي تقديم الأدلّة على التطابق بين العالم واللغة). الثانية، توليد معانٍ جديدة لجملة لغوية ما، بشرط وجود السياق المناسب، رغم أنّ هذه الجملة اللغوية لم تشر إلى هذه المعاني بشكلها العمودي المباشر.

هذا المثال سيوضّح أكثر: الجملةُ الخبريّة "الجوّ حارّ هنا"، تشير حسب الأربطة العموديَّة إلى وصف حرارة الجو. ولكنْ عند قول هذه الجملة في سياق مناسب، فإنَّ القصد قد لا يكون وصف حرارة الجو، بل إعطاء فعل أمر لـ "فتح الشباك" أو "دعنا نخرج من البيت"، أو أي معنى آخر يُناسِب السياق الذي تُقال فيه الجملة، ومن الواضح أنّ هذا المعنى الجديد مختلف تمامًا عن معنى الجملة العموديّ. قائل هذه الجملة يعتمد على الأعراف الأفقية في توليد المعنى الجديد المُتضمَّن في السياق، مع ضرورة التذكير دومًا بأنّ الأربطة العمودية لا تشير إلى هذا المعنى الجديد بشكل مباشر.

الأعراف الأفقية عند سيرل هي نفسها "الألعاب اللغوية" Sprachspiel عند فيتغنشتاين، وهي أداة مؤلّف الخيال الأساسيّة والتي "تثبِّط" فعاليّة شرائع الربط العمودي، وتفكّ الصلة بين اللغة والعالم، وتسمحُ لمؤلّف الخيال بعقد صلات جديدة بين: الكلمات في اللغة والأشياء في العالم. الأعراف الأفقية تسمح بربط أيِّ شيءٍ أو حدثٍ في العالم، مع أيِّ كلمة أو فعل في اللغة، هي أداة التحرّر من شرائع الربط العمودي. 

ما يجعلُ الخيال ممكناً هو مجموعة من الأعراف الأفقية

ولكل نصّ خيالي أعرافه الأفقية الخاصّة التي يعقدها مع القارئ. حتّى أنّ القارئ قادرٌ على التمييز بين النصوص الخياليّة المختلفة عن طريق تحديد الأعراف الأفقيّة السائدة في كلّ نص. فإذا كنا من قرّاء كاتبة الروايات البوليسية، آغاثا كريستي، سنشعرُ بالشكّ إذا قيل لنا بأنّ أحداث إحدى الروايات تدورُ على كوكب عطارد أو داخل مركبة فضائيّة، ولن نصدّق حتّى نتأكد، لأنّ لدينا معرفة مسبقة بنوع الأعراف الأفقيّة السائدة في أعمال كريستي. ونلاحظ أنّ كل نسخ شخصيّة "سوبر مان" في كل الأفلام التي أخرِجَت، لم تُغيَّر الأعراف الأفقيّة المترسّخة في ذهن القارئ، والتي تشير إلى قدرة "سوبر مان" على الطيران. 


التظاهر

ولكن كيف تُستدعى هذه الألعاب اللغوية؟ بلغة سيرل: ما هي الآلية التي تسمح للمؤلّف باستدعاء الأعراف الأفقية التي تعلّق فعالية شرائع الأربطة العمودية؟ الآليّة هي التظاهر أو التمثيل، إذ يستدعي كاتب النصّ الخيالي الأعراف الأفقية، تمامًا كما يستدعي الطفل فعل قيادة السيارة، عندما يجلس على المقعد مُحرّكًا يديه على المقود "متظاهرًا" بالقيادة. يسمحُ التمثيل باستدعاء إجراءات معقّدة لا يمكن القيام بها واقعيًا عبر الأداء الواقعي لإجراءات أقل تعقيدًا، بشرط أن تكون الإجراءات الأقل تعقيدًا جزءًا من الأكثر تعقيدًا. وبهذه الطريقة يستدعي الطفل فعل قيادة السيارة المعقد، عبر التظاهر الأقل تعقيدًا بالقيادة. ويستدعي مدرّب الألعاب القتالية فعل القتال عبر التظاهر بالقتال، ويستدعي كاتب الأعمال الخياليّة الأعراف الأفقية، عبر التظاهر بالأفعال والكلمات التي يقوم بكتابتها. ولأنَّ التمثيل فعل قصديّ Intentional، أي أنَّه يصدرُ حصرًا بوعيٍ من نيّة الممثّل نفسها، فإنَّ الكتابة الخيالية هي أمرٌ خاضع لنية المؤلّف.

تصبح الخلاصة الأساسيّة لنظرية سيرل هي ما يلي: الفرق بين النص الخيالي والنص غير الخيالي يقعُ خارج اللغة، وبالضبط داخل نية المؤلّف الذي يقوم عن طريق "التظاهر" بصناعة أعرافه الأفقيّة الخاصة مع القارئ. 


صِدام النوايا     

يهزّ الفيلسوف والناقد الأدبي البريطاني، غريغوري كاري (70 عامًا) Gregory Currie، نظرية سيرل في نصّه المنشور بعنوان "ما هو الخيال؟" ?What is Fiction الصادر عام 1985. يورد الناقد البريطاني الرفيع المتبحّر في الأدب عددًا من الأمثلة عن أعمالٍ خياليّة لا يمكن لفكرة سيرل القائلة بأنّ إقرار صفة الخيال هو أمرٌ تابعٌ فقط لنية المؤلّف، أن تعطي تفسيرًا مقنعًا لها.

ويشير كاري إلى أنّ الحدود بين الخياليّ وغير الخياليّ ليست واضحة دومًا كما يصفها سيرل، ويمكن لنوايا المؤلّف أن تتعارض مع نوايا القارئ. إذ للروائي البريطاني كينغسلي أميس (1922-1995) Kingsley Amis قصّة قصيرة يدمج فيها أحداثًا من سيرته الذاتية بأحداث أخرى خياليَّة. ولكنّ التواصل الخياليّ مع الجمهور لم يكن ناجحًا، إذْ اضطرّ أميس أكثر من مرّة أن يشرح في مقابلات بأنّ القصة خيالية بالمجمل، ولا يجب على أحد أن يصدّقها، وذلك بسبب بعض الردود من القرّاء، والتي صدّقت الأحداث فعلًا.

كما أنَّ كاتب رواية "روبنسون كروزو" الصادرة عام 1715، البريطاني دانيال ديفو Daniel Defoe (1660-1731)، كان ينوي فعلاً أن يصدّق الناس بأن أحداث القصة التي يرويها هي أحداثٌ حقيقية حصلت في العالم الفعلي. ولكن بغضّ النظر عن نية ديفو، فإنّ روايته مندرجة بحزمٍ ضمن خانة الخيال، ولا يمكن لنية الكاتب أن تغيِّر هذا التصنيف في ذهن القرّاء. كما أنّ ثمّة نصوصًا لا مؤلّفين لها نستطيع أن "نفحص نيّتهم"، كالكتب السماوية: الإنجيل والقرآن والتوراة. وعمليّة تصنيف هذه النصوص هي أمرٌ خلافيّ مرتبط بالنزعة الاجتماعيّة السائدة. فأن نقول: "الأحداث الموجودة في القرآن حصلت فعلًا وليست خياليّة" هو موقف سياسي وثقافي يختلف عن الموقف المُتضمَّن في الجملة "الأحداث الموجودة في كتاب ديني ما هي خياليّة". نَسْب صفة الخيال، بحسب كاري، ليست أمرًا ينبعُ من نية المؤلّف الفرد، بل من النزعة السائدة لدى القرّاء... لدى المجتمع. 


سؤال مفتوح

لكن، ثمّة ملاحظة مهمّة، وهي أنّ العناصر المشكّلة للنص الخيالي، ليست كلّها خياليّة بالمطلق؛ فروايات تولستوي تدور أحداثها في روسيا، وقصص "شيرلوك هولمز" تحدث في لندن. ويذكر محمد ربيع في "عطارد" الكثير من الأحداث والوقائع غير الخياليّة والتي حصلت فعلًا، كما أنّ كلمة "البندقية" في المثال المأخوذ من روايته تشير فعلاً إلى البندقية في العالم، ومثلها كلمات "لندن" و"روسيا" و"عطارد". ولأنّ الخيالي هو مزيجٌ من الأعراف الأفقية والأربطة العمودية، من العناصر الخيالية وغير الخيالية، بل لا يوجد نص خياليّ خالٍ تماماً من عناصر غير خياليَّة، فإنّ الخيالٌ امتدادٌ لمعرفتنا، واستطالةٌ للوجود. 

يبقى السؤال الأكبر مفتوحًا: لماذا يقوم الناس بقراءة النصوص الخيالية؟ ما السرّ الغامض وراء هذا الدافع البشريّ الغريب؟ لا جواب داخل فلسفة اللغة حتّى الآن. وكما يقول فيتغنشتاين، الشاب الذي عُرِف بخجله وشخصيته الانسحابيّة، والعقل المتقشِّف الأكثر اشتعالاً في هذا التقليد الفلسفي: "ما لا يمكن الحديث عنه... ينبغي الصمت إزاءه".


* كاتب سوري مقيم في برلين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون