فعلتها جنوب أفريقيا وساقت الصهاينة إلى مكانهم الذي صنعوه على امتداد سنوات طويلة من التمييز العنصري ضدَّ الفلسطينيين. "إسرائيل"، بصفتها مجرمة حرب، تواجه استحقاقاً صعباً أمام القانون الدولي وفي محكمة دولية. وهذا موقف كان يصعب تصديقه. ومَن صنعه، ليسوا العرب الذين اعتادوا خطابات الانتصار أو انتكاسات الهزائم، أو اللعنة التي يرسلونها في كلّ اتجاه. وإنَّما من صنع هذه اللحظة بلدٌ آخر وشعب آخر خضع طويلاً لنظام الفصل العنصري.
موقف غير مسبوق. ويمكن أن يُقرأ بناء على استنتاجات سريعة؛ بأنّ تجربة الشعوب مشتركة، وبأنَّ شعباً ناضل من أجل التخلّص من نظام الفصل العنصري، اندفع لوقف الإبادة العنصرية التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي. الموقف يؤكّد أمرين قادتنا إليهما جنوب أفريقيا وهُما ضرورة ووجوب الحديث بمفردات القانون الدولي، والأمر الثاني أنّ تجربة الشعوب واحدة، ممتدّة. فالبشر تحت الظروف المتشابهة يصنعون التجارب ذاتها باختلاف شرطي الزمان والجغرافيا، والقوى الفاعلة.
والتهديد الذي يحيق بالشعب الفلسطيني مع سلوك الصهاينة الذي يسعى إلى محوهم، هو تهديد يحيق بالإنسانية كلّها. هذا لم يعد شعاراً. ولا أدلَّ من موقف جنوب أفريقيا التي تسعى لمقاضاة كيان الاحتلال، كي تمنع نكوص البشرية جمعاء، نكوص تجربة البشر كلّهم إلى عصور سحيقة تحاول البشرية عدم العودة إليها.
لكن على الجانب الذي يشمل العرب، يصعب أن يتجاوز المراقب غيابهم. مهما بلغ فقدان الرجاء منهم؛ يبقى غيابهم غير مسبوق. وكأنَّما الإنسانية بمعناها الواسع، بمعناها الحقيقي الذي تصنعه تجربة الشعوب ككلّ، تستعيد فلسطين من الأنظمة التي كثيراً ما أثقلت على شعوبها بالعسف والجور بذريعة أنّ "إسرائيل" تقف في الباب وتحتلّ النافذة، وسوف تسطو على الأرض والمال. لذلك يخاطب الحاكم جمهوره: "لا ترفعوا أصواتكم، لا تطالبوا بحريتكم، لا تطالبوا بأموالكم، فنحن تحت تهديد 'جار' متربّص". كثيراً ما قاسى أبناء العربية هذا النوع من "الأب" غير المسؤول، غير المبادر، والمهزوم حتى العار.
استعادة فلسطين من أنظمة تتذرّع بقضيتها لممارسة الاستبداد
تأخُّر العرب في اللحاق بالدعوى القضائية تأكيد جديد على أنّ ما يتغيّر في العالم هو تكشُّف حقائقه بصورة لا مراء فيها. ومن جملة ما يتغيّر أنه لم يعد بمقدور النظام العربي أن يكذب أكثر. الحكاية صارت مفضوحة. و"الاغتصاب" هذه المرّة حدث على السطح ووسط النهار. الحكاية صارت مفضوحة. لكن بالقدر نفسه، إنَّها حكاية نضال كبيرة، ونحن أمام فرصة تَعَلُّم تحدث أمامنا. فلاهاي، التي اعتاد النظام العربي التحذيرَ منها بصفتها أداة غربية للتحكّم في الدول المستقلّة، تنظر اليوم في محاكمة "إسرائيل"، الأداة الغربية في المنطقة العربية.
في لاهاي، سمعنا سرداً دقيقاً من أربع وثمانين صفحة لجرائم كيان الاحتلال، جنوداً ومسؤولين وسياسات. في لاهاي، سمعنا الحكاية التي نردّدها على صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي جرائدنا، وفي بيوتنا أمام الشاشة وبين أصدقائنا في المقهى. لكن هذا الخطاب الذي يتوجّه إلى الذات إمّا كي يواسيها أو كي يشدّ عزيمتها. استخدمه غيرنا كي يخاطب العالَم قانونياً، بمفردات اخترعها العالم كي يصنع أساساً مشتركاً للعدالة من حيث المبدأ.
الثقافة التي يجب أن يتعلّمها العرب، في أحد أشكالها، هي معارك القانون، والتوجّه إلى العالم بلغته، تعلُّم الحديث مع العالم بمفرداته، وقول مفردات يفهمها "الغرب"، بلغته ومصطلحاته. إحراج الغرب، والضغط على الغرب -ممَّن يدعم "إسرائيل"- بالآليات التي أنتجتها نضالات البشر جميعهم. فالعدالة مسألة إنسانية يلتقي على أحقيتها الجميع. حتى "الصهاينة" بجرائمهم يزعمون أنَّهم يريدون تحقيق العدالة. والمسألة في أن يساهم العرب بدورهم في تعريف تلك "العدالة".
* روائي من سورية