لماذا سعد الله ونوس؟

27 مارس 2022
سعد الله ونوس في صورة عائلية
+ الخط -

في تنظيره وفي أعماله على السواء، اعتبر المسرحي السوري سعد الله ونوس (1941 - 1997)، المسرحَ ظاهرة اجتماعية، ينطلق العرض من الجمهور ثمّ تالياً يظهر على الخشبة. والتوجّه إلى الجمهور هو السعي إلى تغيير واقعهم، إذ عالج ونوس في مسرحياته قضايا الواقع السياسي والاجتماعي، وفي مسرحياتهِ كافة حفرٌ لطبقة الوعي الزائف التي صنعتها السلطات على اختلاف أشكالها، وصولاً إلى الوعي الحقيقي الذي هو وعي الحريّة والثورة والتغيير. هذا هو سعد الله ونوس كما عرفته الثقافة العربية، والذي تصادف ذكرى ميلاده اليوم، مسرحي تقدميّ، والحريّة هي أعلى القيم التي تحرّك وعيه الفنيّ.

لربما يكون ونوس من أبرز الشخصيات الثقافية السورية التي كانت لها مقولة متماسكة لا فكاك فيها بين التنظير والممارسة. الأمر الذي نراه في نتاجهِ، وفي انقطاعاتهِ أيضاً؛ إذ كتب إثر نكسة حزيران/ يونيو "بيانات لمسرح عربي جديد" وفيها رؤيتهُ لقصور المسرح العربي، كما كتب مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" (1969)، ومع توقيع "اتفاقية كامب ديفيد" عام 1978 واجتياح بيروت عام 1982 صمت لسنوات طويلة، لتقطع انتفاضة 1987 الفلسطينية صمته، حيثُ كتب مسرحية "اغتصاب" (1989)، التي يفصل فيها الصهيونيَّ عن اليهوديِّ عبر روايتين فلسطينية وإسرائيلية. ثمّ مع مرضه، كتب بغزارة مَن يستنجد بالفنّ ضدّ الموت. فكتب أهم أعمالهِ مثل "طقوس الإشارات والتحولات" (1994)، و"منمنمات تاريخية" (1994). وعلى هذا النحو، كان من أولئك الذين يعيشون الكتابة، ولا ينظّرون لها فحسب.

تناغماً مع اعتباره المسرح ظاهرة اجتماعية، ابتكر ونوس مفهوماً جديداً في المسرح العربي وهو "مسرح التسييس" (لا المسرح السياسي)، وهو مسرح قائم على التحريض، وقد دفعت به نكسة حزيران 1967 إلى اعتبار المسرح متأخّراً عن استيعاب ما يجري من حولهِ. لا ننسى هنا أنّ التشكيلي لؤي كيالي (1934 - 1978)، قرأ الهزيمة على وجوه العمّال والفلاحين في معرضه "في سبيل القضية"، وقد أُقيم المعرض الذي أحرق لؤي جميع لوحاته في أيار/ مايو 1967، كذلك تحدّث الروائي هاني الراهب (1939 - 2000)، عن الهزيمة قبل حدوثها بسنوات في روايته "المهزومون" (1960)، فيما نشرت مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" في مجلة "مواقف" عام 1969، وحدا هذا التأخير، الذي عدّه ونوس قصوراً، بهِ إلى كتابة "بيانات لمسرح عربي جديد" (1970).

مسرحُه حفرٌ لطبقة الوعي الزائف التي صنعتها السلطات

وتكفي الإشارة إلى عنوان كتابهِ النظري بكلمة استنفاريّة مثل البيانات، للإشارة إلى الدور النهضوي الذي أراده للمسرح. وقد اعتبر وظيفة المسرح أن "يشحن" لا أن "يفرّغ". أي أنّ على المسرح أن يدفع بالجمهور إلى الوعي بضرورة التغيير، لا إلى الضحك أو البكاء اللذين يسلبان الفعل ويحطمان الإدراك، وهو نوع شاع في حكم "البعث" كمسرح دريد لحام ومحمد الماغوط على سبيل المثال. على ضوء هذا، ليس مسرح سعد الله سوداوياً بقدر ما هو مسرح يخاطب الوعي ويثيرهُ بأقسى الصور.

لكن، وعلى الرغم من الزخم العقائدي الذي كان يحرّك ونوس بضرورة تغيير الشكل السائد للمسرح، وربطه بوظيفة تحرريّة، فإنّ تنظيره للمسرح ترافق بمسرح خالٍ من التنظير. إذ ظهرت أفكاره بصورٍ جمالية وفنيّة بحتة، عبر ابتكار حلول من داخل الثقافة؛ باعتمادهِ نماذج لأبطال واقعيين يمثّلون تيارات الحياة المختلفة خارج المسرح، وباعتمادهِ على أسلوب يصل الجمهور؛ مثل استخدام لغة الحكواتي في تصدير المشاهد وفي لغة الحوارات، ونرى ذلك في مسرحيات كثيرة لهُ، مثل "الأيام المخمورة" (1997). إنّه مسرحيّ وفيّ لشروط الفنّ المسرحي، بقدر ما هو مثقف أصيل ينتمي إلى الجمهور. وهذان الشرطان معاً، منحاه بريقه الاستثنائي في الحياة الثقافية السورية. إذ كان يعي موقع المثقف ودوره، بالقدر الذي كان يدفع بالمسرح والمسرحيّين إلى ناصيةٍ يدرك الجمهورُ، في مواجهتها، موقعَه من التاريخ.

وفي هذا يمكن القول إنّ ونوس كان مأخوذاً بما يمكن أن ندعوه حركة التاريخ. فمسرحه يلوب باستمرار بين مجموعةٍ من القوى، وهي قوى محلّية في مسرحيته "طقوس الإشارات والتحوّلات" بين الوالي والمفتي ونقيب الأشراف من جهة والخدم وزوجة النقيب والغانية من جهة أُخرى. مسرحه تصويرٌ لأشكال العلاقات بين مجموعة القوى المؤثّرة في الحياة العامة، لكنه مسرحٌ مضبوط باتجاه واحد وهو خلخلة البنى الموجودة التي كان يراها سبباً في الهزائم. وهذا ما نراه بصورة أشمل في "منمنمات تاريخية"؛ حيثُ يستدعي حصار المغول لدمشق، ويمكن للحصار الذي يعود إلى القرون الوسطى أن يكون حصاراً لأية عاصمة عربية وفي أي زمن. إذ تحيلُ المسرحية إلى مجموعة من الدلالات عن فساد الأزمنة وتكاتف قوى الخارج. بصورة عامة، تُقرأ مسرحيات سعد الله ونوس خارج إطارها الزمني، لا لكونهِ استند إلى أحداث قديمة كما في "منمنمات تاريخية" أو حوادث في مطلع القرن العشرين كما في "الأيام المخمورة"، بل لأنّ مسرحه يقوم داخل الشرط المسرحي بصورة دائمة.

قرأ سعد الله أسباب نجاح تجربة أبي خليل القباني الذي صنع جمهوراً بأدوات بسيطة، كما استلهم من مسرح بريخت التجريبي. ومسرحيته "رأس المملوك جابر" (1970)، من أكثر نصوصه تجريبية، إذ إنّها جملة اقتراحات تدور في المقهى، ويمكن لها أن تحدث في مكان آخر وبحوارات أُخرى. وكان الكاتب المسرحي في بحث دائم عن مخرج يتجرّأ على نصهِ، وقد شكّل مع المخرج المسرحي فواز الساجر (1948 - 1988)، ثنائياً استثنائياً في تاريخ المسرح السوري أثناء عملهما في المسرح التجريبي.

اعتبر أنّ المسرح متأخّر عن استيعاب ما يجري حوله

أكثر ما ارتبط بسعد الله ونوس جملته الشهيرة في رسالة "يوم المسرح العالمي" في 27 آذار/ مارس 1996: "إنّنا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ". تشيرُ هذه العبارة إلى مسرحي كافح طويلاً في سبيل صناعة فنّ حقيقي.

وفي أحد حواراته مع فوّاز الساجر، وهما يقاومان شعوراً مريراً بعد منع عرض مسرحية لبريخت، أعدّها الأوّل وأخرجها الثاني، أجاب على تساؤل الساجر إن كان أحدٌ يضمن ألّا تُمنَع تجاربهما المسرحية القادمة؟ بجملة تمثّل أيّما تمثيل مجازفته في مذهبه المسرحي برمّته، إذ قال: "لا أحد. قدرنا أن نعمل بلا ضمانات". هكذا إذن عمل ونوس من غير ضمانات. ويصف شعوره أثناء الكتابة المسرحية على النحو التالي: "أشعر أنني لست في جلدي". وهذا مفهوم، ذلك لأنّه تجوّل كثيراً داخل حركة التاريخ وصنع لجمهوره وعياً نافذاً، بوضوحٍ واتّساع وعمق، إلى الحريّة المؤكّدة.


* كاتب من سورية

المساهمون