أثارت الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى "محكمة العدل الدولية" ارتباكاً شديداً في الأوساط السياسية والاجتماعية الأوروبية، خصوصاً أنّ الخطوة تُمثّل أكبر تحدٍّ قانوني وقضائي يواجهه الاحتلال الإسرائيلي منذ اختلاقه في منطقة الشرق الأوسط عام 1948.
وقال المرافعون من جنوب أفريقيا، في تقريرهم المؤلَّف من 84 صفحة، إنّ "إسرائيل" ترتكب منذ أشهر أعمالاً يمكن وصفها بالإبادة الجماعية، وعلى هذا الأساس، فإنّهم يطالبون بوقف العدوان على غزّة وإخضاع سلطات الاحتلال للقانون الدولي المختصّ باتفاقية الإبادة الجماعية.
شعرت الأوساط المؤيّدة للصهيونية في القارّة الأوروبية بالقلق والامتعاض، ليس من "تورّط" جنوب أفريقيا في مثل هذه "المؤامرة"، كما يصفونها؛ إذ إنّ "حزب المؤتمر الوطني" الأفريقي الحاكم منذ سنوات اعتاد أن يقارن سياسات "إسرائيل" في فلسطين المحتلّة بنظام الفصل العنصري السابق في بلاده - وهو التوصيف الذي كرّره قبل أيام رئيس البلاد سيريل رامافوزا - بل من استجابة المحكمة للنظر في الدعوى وإقدام عدد من الدول على دعمها.
قضية الإبادة بدأت تنعكس سلباً على البلدان الأوروبية نفسها
وتعرف الدول الغربية عموماً، والأوروبية منها على وجه الخصوص، أنّ استمرار المداولات ومداخلات الأطراف وردود الفعل السياسية والاجتماعية والإعلامية على تداعيات القضية ستضع "إسرائيل" على المحكّ وتحت المجهر لمدّة طويلة من الزمن.
لا شكّ أنّ "إسرائيل"، بعد ثلاثة أشهرٍ من عدوانها الهمجي، تعيش في مأزق: فهي بحاجة إلى إتمام مهمّتها العسكرية وإنقاذ ماء وجهها أمام الرأي العام العالمي، بعيداً عن الجدالات حول طبيعة عمليّاتها. الكيان في مأزق على جميع الأصعدة، لا سيّما أنّه لم يُحقّق نجاحاً يُذكر في جبهة القتال، كما أنّه لم يتمكّن من إقناع جزء كبير من الرأي العام العالمي بأنّه "يمارس حقّه المقدّس في الدفاع عن النفس".
نعرف أنّ الأوساط الأوروبية الرسمية لا تتوقّع احتمال صدور حُكم يُدين "إسرائيل"، ناهيك عن أنّ المحكمة قد تتأخّر سنوات قبل إصدارها أيَّ قرار بهذا الخصوص. وحتى إذا نجح الطرف المدّعي بإقناع المحكمة بأنّ "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية، وهذا ما يُلزم إصدار حُكم يأمر بإنهاء عدوانها العسكري على غزّة، فإنّ "إسرائيل" لن تُذعن للحُكم، ومن المؤكّد أنّ الدول الغربية ستبذل قصارى جهدها من أجل الحيلولة دون اتخاذ المحكمة أيَّ قرار سريع من شأنه أن ينهي العدوان.
ما يُقلق تلك المحافل الأوروبية هو الانطباع السائد بأنّ الصهيونية فقدت جزءاً كبيراً من نفوذها، وهذا ما يتجلّى في امتناع دول ومنظّمات وجمعيات وأفراد كُثر عن الوقوف إلى جانب الأطروحات الإسرائيلية ودعمها. والمواقفُ الفاترة الصادرة عن بعض الدول الأوروبية التي امتنعت عن تأكيد مساندتها الكاملة للحليف الإسرائيلي تحمل دلالات كثيرة.
على سبيل المثال، اكتفى الاتحاد الأوروبي بالقول إنّ للدول الحقّ في رفع قضايا إلى محكمة الأمم المتّحدة، وذلك في أعقاب امتناع معظم الدول الأعضاء عن التصريح بموقف واضح من دعوى جنوب أفريقيا، وهذا، بلا شك، يدلّ على تأثُّر تلك الدول الأوروبية بحالة التململ المتنامية في صفوف المجتمعات الأوروبية المصدومة بوحشية الجيش الإسرائيلي، علماً أنّ هناك عدّة جمعيات أهلية ومنظّمات حقوقية أوروبية بادرت إلى اعتماد الطلب الجنوب أفريقي.
اقتنع كثيرون في الغرب بضرورة وضْع "إسرائيل" عند حدّها
ضمن هذا السياق، يبدو أنّه لم يبق لـ"إسرائيل"، من ضمن الدول الأوروبية الحليفة المعتادة، سوى الحكومات الأكثر التصاقاً بها، مثل المملكة المتّحدة التي خرجت من الاتحاد الأوروبي منذ سنوات، وألمانيا والمجر. أمّا الدول الباقية، فإمّا متعاطفة "معنوياً" مع مبادرة جنوب أفريقيا، مثل إسبانيا وبلجيكا، أو متحفّظة عليها، مثل إيطاليا؛ ولكن دون أن تتقدّم هذه أو تلك بأيّة خطوة يمكن تفسيرها أنّها مع أو ضدّ الدعوى.
الحالة الأكثر شذوذاً هي ألمانيا، التي لم تكتف بشجب لائحة الاتهام الأخلاقية المرفوعة من جنوب أفريقيا، بل أكّدت استعدادها للتدخّل كطرف ثالث لدعم "إسرائيل" في قضية الإبادة الجماعية، وهو ما أثار استغراب العديد من الأوساط الاجتماعية الألمانية، التي توقن أنّ قرار الحكومة الألمانية مرتبط بـ"ديون التاريخ" ومسؤولية الدولة عن إبادة ملايين اليهود في حقبة النظام النازي، أكثر من ارتباطه بمناصرة دولة "صديقة" في قضية ظالمة.
لقد صار واضحاً للعيان، بما في ذلك عيان "أصدقاء إسرائيل" الغربيّين، أنّ "إسرائيل" تُفرط في استخدام العنف في غزّة. وحتّى إن امتنع هؤلاء "الأصدقاء" عن وصف هذه التجاوزات بالإبادة، إلّا أنّهم لا يستطيعون أن يُنكروا وحشية الغارات الجويّة وتمادي قوّات الاحتلال في العيث في أرض غزّة فساداً.
وهنا لبُّ القضية بالنسبة إلى داعمي "إسرائيل" في الغرب عامّة، وأوروبا خصوصاً: لقد تجاوز النظام الإسرائيلي جميع الخطوط الحمراء، بحيث يتعذّر عليهم الدفاع عنه دون اللجوء إلى خزعبلات إنشائيّة والهروب إلى الأمام، عن طريق التلويح بانتشار "داعش" و"القاعدة" والجهادية العالمية في المنطقة، وغيرها من الأحاديث الإعلامية المُراد منها فصل القضيّة الفلسطينية عن سياقها الإنساني والقانوني.
لذلك، لا تريد هذه الدول أن يطولَ الحديث عن المجازر الإسرائيلية، ولا عن معاناة شعب غزّة وحرمان الناس البسطاء من الغذاء والماء والكهرباء والمأوى، لا سيّما أنّ المنظّمات الحكومية وغير الحكومية الغربيّة نفسها هي التي تُجاهر بصورة شبه يومية بأنّ مئات الآلاف من أبناء غزّة الأبرياء يواجهون خطر المجاعة أو سوء التغذية أو الأوبئة الفتّاكة.
لكن، ولسوء حظ هذه الدول، فإنّ نظام "إسرائيل" لا يُسهّل الأمور عليهم، كونه النظام الأكثر تطرّفاً وحماقةً وإجراماً في تاريخ الكيان. ويُعبّر المسؤولون الأوروبيون، وقبلهم الأميركيون، عن استيائهم من تصرّفات رئيس الوزراء الإسرائيلي والوزراء المتعنّتين والعنصريّين الكارهين للفلسطينيّين والعرب، والرافضين للنظام العلماني والمطالبين بتطبيق تعليمات "الكتاب المقدّس".
تعلم الدول الغربيّة الداعمة لـ"إسرائيل"، بذريعة التزام هذه الأخيرة باتباع نهجٍ سياسي علماني يحترم مبادئ الديمقراطية والتناوب في السلطة، أنّ دعمها لم يعُد مقنعاً أمام العالم. وإلى جانب ذلك، فإنّ الإسهاب في جدال يتمحور حول ارتكاب "إسرائيل" إبادة جماعية في غزّة سيُحرج هذه الدول الأوروبية ذاتها، الخبيرة في فنون الإبادة وتقتيل الشعوب الأصلية بحكم تجاربها الاستعمارية.
وقد تكون هذه المفارقة الكبرى، وهي أنّ الدول الأوروبية الأكثر تعاطفاً ودعماً لـ"إسرائيل"، مثل ألمانيا والمملكة المتّحدة، لها سوابق خطيرة في مجال حروب الإبادة والتشريد، وحتّى نظام التمييز والفصل العنصري. وهذا تحديداً ما تمارسه قوّات الاحتلال بحق الفلسطينيّين. فالكلّ يعلم - إلّا البريطانيين على ما يبدو - أن نظام الأبارتهايد اللاإنساني البغيض هو من صنع بريطانيا، وهي القوّة الاستيطانية التي ابتدعت أشكالاً متنوّعة من الحكم التمييزي العنصري في أنحاء متفرّقة من المعمورة، بما فيها فلسطين، حيث سمحت للمنظّمات الصهيونية بالتوسّع، بل ساعدتها بطرق متعدّدة في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيّين وممتلكاتهم.
قلقٌ لدى المحافل الأوروبية من فقدان الصهيونية جزءاً كبيراً من نفوذها
أمّا الولايات المتّحدة، وهي السند الأساسي للخطط الصهيونية في الشرق الأوسط، فحدّث ولا حرج عن ماضيها المُخجل في العبودية والتجارة بالبشر، حيث كانت أكبر قوّة في ميدان الاستعباد في تاريخ البشرية، وأدّت تجارتها الكريهة تلك إلى إبادة شعوب أفريقيّة بالكامل، أو تشريدها واقتلاعها عن مواطنها الأصلية.
هكذا، بالإضافة إلى تِبعات دعوى جنوب أفريقيا وتجلّياتها بما يرتبط بسمعة "إسرائيل" الدولية، وتضرّر هيبتها من جراء استمرار الجدل حول عمليّاتها الهمجيّة المتواصلة في غزّة، فإنّ قضية الإبادة الجماعية بدأت تنعكس سلبياً على الدول الأوروبية نفسها، وفي مقدّمتها تلك التي تهافتت إلى إسعاف المشروع الصهيوني المترنّح.
وفي إطار الحديث عن تجلّيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، لا يمكن أن تتجاهل الشعوب الأوروبية، بعد الآن، سوابق تاريخية مشابهة. وفي هذا المجال، وللمفارقة، تقع الدول الأوروبية على رأس القائمة دون منازع. ولكنّها، شأنها في ذلك شأن "إسرائيل"، لا تعترف بمسؤوليتها عن مجازر منظّمة أودت بحياة الملايين من الأبرياء.
إلى جانب ألمانيا مع ناميبيا أو تنزانيا، أو المملكة المتّحدة مع جنوب أفريقيا، والسكّان الأصليّين في القارة الأميركية الشمالية، فإنَّ فرنسا، على سبيل المثال، لم تعترف بمسؤوليّتها عن تصفية مئات الآلاف من الجزائريّين في منتصف القرن الماضي. ولم يصدر عن بلجيكا، تمثيلاً لا حصراً، أيّ اعتذار رسمي عن المجازر المروّعة المرتكبة في الكونغو قبل ما يزيد عن مئة سنة. كذلك، أبت كلٌّ من إسبانيا والبرتغال التوجّه باعتذار رسمي إلى دول أميركا الجنوبية عن فترة الاستعمار.
المضحك المبكي في هذا كلّه هو أنّ الدول الأوروبية لم تعترف اعترافاً صريحاً بتورّطها في هذه الإبادات أو الإساءة المنظّمة لشعب أو ديانة أو عرق محدّد، إلّا في تلك الحالات المتعلّقة باليهود الأوروبيّين. فعلت ألمانيا ذلك بعد مذابح الحرب العالمية الثانية، وكذلك دول أوروبية أُخرى عندما شجبت عمليات ملاحقة وطرد الجاليات اليهودية في العصور الوسطى أو في العصر الحديث.
المثال الأكثر تناقضاً هو المثال الإسباني، حيث أُقرّ بعدم شرعية ترحيل اليهود بعد سقوط غرناطة في 1492، فأُعيدت حقوق المواطنة والامتلاك إلى أخلاف هؤلاء المرحَّلين، ولكن رُفض الاعتراف بحقوق الموريسكيّين الذين تعرّضوا للمصير ذاته في القرن السابع عشر، أي، وكما تقول فرقة "كايروكي" المصرية في أغنيتها عن نكبة غزّة وازدواجية المعايير: "هذه قضية وتلك قضية"؛ فالقضية تُكتب دائماً بالأحرف الكبيرة إذا كانت تخصّ المشروع الصهيوني ومصلحة "إسرائيل".
وفيما تنخرط "إسرائيل" في هذا العدوان الذي يثير انتقادات عالمية واسعة النطاق، ثم تخرجُ منه بصورة المنتصرة، بحُكم جبروتها الإعلامي والتغطية السياسية والدبلوماسية والعسكرية المقدَّمة من قبل دول الغرب، وللأسف الشديد من أطراف عربية تبدو أكثر صهيونية من الغربيّين أنفسهم، يسقط الضحايا الفلسطينيون. وفي ظلّ هذا كلّه، لن يتردّد الإعلام الغربي في تحويلهم إلى جلّادين وتحميلهم مسؤولية تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط.
لم تعترف البلدان الأوروبية بارتكاب إبادات إلّا في الحالات المتعلّقة باليهود
لكن، مع هذا كلّه، ما بدأ يتغيّر في الشرق الأوسط، بدأ يتغيّر أيضاً في الغرب، ليس فقط لأنّ المنظومة الأيديولوجية والفكرية الغربية فقدت عدداً كبيراً من أوراقها فحسب، بل لأنّ نسبة متزايدة من المواطنين الغربيّين، وبخاصّة الشباب، صارت مقتنعة بأنّ "إسرائيل" يجب أن تُوضع عند حدّها، خصوصاً أنّها تحمل شعار "قيم الغرب في الشرق الأوسط".
ما يُقلق النخب السياسية والاقتصادية الغربية الراهنة هو أنّ الجيل الجديد لا يضيره أن يعترف بأخطاء الماضي واستنكار صفحة الاستعمار غير المشرّفة؛ على الرغم ممّا يبذله اليمين المتطرّف والأوساط القومية المعتدلة وغير المعتدلة في سبيل تلميع تلك الصفحة، كما أنّه لا يرى غضاضة في إجراء فحص دقيق لسجلّ تاريخي يحفل بالكراهية والتمييز إزاء الشعوب الأُخرى.
لذلك، فإنّ هذه النُّخب اليوم تشعر بالحرج كلّما دار أيّ حديث عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وتتمنّى لو انحصر الخطاب في "وحشية الفصائل الإسلامية الفلسطينية والأخطار المحيقة بالمبادئ الديمقراطية التي تمثّلها إسرائيل".
* أكاديمي ومترجم إسباني وأستاذ الدراسات العربية في "جامعة مدريد المستقلّة"